{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(167)وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(168)فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(169)وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا ءاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(171)}.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي واذكر يا محمد حين أعلم ربك ليسلطنَّ على اليهود إلى قيام الساعة من يذيقهم أسوأ العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله واحتيالهم على المحارم، وقد سلّط الله عليهم بختنصّر فقتلهم وسباهم، وسلّط عليهم النصارى فأذلوهم وضربوا عليهم الجزية، وسلَّط عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فطهّر الأرض من رجسهم وأجلاهم عن الجزيرة العربية، وسلّط عليهم أخيراً "هتلر" فاستباح حماهم وكاد أن يبيدهم ويفنيهم بالقتل والتشريد في الأرض، ولا يزال وعد الله بتسليط العذاب عليهم سارياً إلى أن يقتلهم المسلمون في المعركة الفاصلة إن شاء الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي سريع العقاب لمن عصاه وغفورٌ رحيم لمن أطاعه {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} أي فرّقناهم في البلاد طوائف وفرقاً ففي كل بلدة فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه حتى لا تكون لهم شوكة، وما اجتمعوا في الأرض المقدسة في هذه الأيام إلا ليذبحوا بأيدي المؤمنين إن شاء الله كما وعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ..) الحديث أخرجه مسلم ثم بيّن تعالى أنهم ليسوا جميعاً فجاراً بل فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال {مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي منهم من آمن وهم قلة قليلة ومنهم من انحطّ عن درجة الصلاح بالكفر والفسوق وهم الكثرة الغالبة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي اختبرناهم بالنعم والنقم والشدة والرخاء لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} قال ابن كثير: أي خلف من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح خلْفٌ آخر لا خير فيهم ورثوا الكتاب وهو التوراة عن آبائهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي يأخذون ذلك الشيء الدنيء من حطام الدنيا من حلال وحرامٍ ويقولون متبجحين: سيغفر الله لنا ما فعلناه، وهذا اغترار منهم وكذب على الله {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} أي يرجون المغفرة وهم مصرّون على الذنب كلما لاح لهم شيء من حطام الدنيا أخذوه لا يُبالون من حلالٍ كان أو حرام {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يؤخذ عليهم العهد المؤكد في التوراة أن يقولوا الحق ولا يكذبوا على الله؟ فكيف يزعمون أنه سيغفر لهم مع إصرارهم على المعاصي وأكل الحرام؟ {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} في هذا أعظم التوبيخ لهم أي والحال أنهم درسوا ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي والآخرة خير للذين يتقون الله بترك الحرام {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ الاستفهام للإِنكار أي أفلا ينزجرون ويعقلون؟ والمراد أنهم لو كانوا عقلاء لما آثروا الفانية على الباقية {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي يتمسكون في أمور دينهم بما أنزله الله ويحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أي لا نضيع أجرهم بل نجزيهم على تمسكهم وصلاحهم أفضل وأكرم الجزاء.
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} أي اذكر حين اقتلعنا جبل الطور ورفعناه فوق رؤوس بني إسرائيل {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي كأنه سقيفة أو ظلة غمام {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي أيقنوا أنه ساقط عليهم إن لم يمتثلوا الأمر، قال المفسرون: روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعنَّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرَّ كل واحد منهم ساجداً خوفاً من سقوطه ثم قال تعالى {خُذُوا مَا ءاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي وقلنا لهم خذوا التوراة بجد وعزيمة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي اذكروا ما فيه بالعمل واعملوا به لتكونوا في سلك المتقين.