{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلؤا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ(29)إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(30)أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(31)قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ(32)قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ(33)قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(34)وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(35)فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ(36)ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ(37)}.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي قالت لأشراف قومها إنه أتاني كتاب عظيم جليل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} أي إن هذا الكتاب مرسل من سليمان ثم فتحته فإِذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وهو استفتاح شريفٌ بارع فيه إعلان الربوبية لله ثم الدعوة إلى توحيد الله والانقياد لأمره {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي لا تتكبروا عليَّ كما يفعل الملوك وجيئوني مؤمنين قال ابن عباس: أي موحدين، وقال سفيان: طائعين {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أي أشيروا عليَّ في الأمر {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي ما كنتُ لأقضي أمراً بدون حضوركم ومشورتكم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نحن أصحابُ كثرةٍ في الرجال والعتاد، وأصحابُ شدةٍ في الحرب {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}؟ أي وأمرنا إليكِ فمرينا بما شئتِ نمتثل أمرك، وقولهم هذا دليلٌ على الطاعة المفرطة قال القرطبي: أخذتْ في حسن الأدب مع قومها ومشاورتهم في أمرها في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يُقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاورة حسنة من الجميع قال الحسن البصري: فوَّضوا أمرهم إلى عِجلةٍ يضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم منهم رأياً وأعلم {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي إن عادة الملوك أنهم إذا استولوا على بلدةٍ عنوةً وقهراً خربوها {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها وأذلوهم بالقتل والأسر والتشريد {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وهذه عادتهم وطريقتهم في كل بلدٍ يدخلونها قهراً، ثم عدلت إلى المهادنة والمسالمة فقالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أي وإِني سأبعث إليه بهدية عظيمة تليقُ بمثله، فأنظر هل يقبلها أم يردُّها؟ قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها !! علمتْ أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس: قالت لقومها إن قبلَ الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإِن لم يقبلها فهو نبيٌ صادق فاتبعوه {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} ؟ أي فلما جاء رسل بلقيس إلى سليمان بالهدية العظيمة قال منكراً عليهم: أتصانعونني بالمال والهدايا لأترككم على كفركم وملككم ؟ {فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } أي فما أعطاني الله من النبوة والمُلك الواسع خيرٌ مما أعطاكم من زينة الحياة فلا حاجة لي بهديتكم {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرةٍ ومكاثرة في الدنيا، ثم قال لرئيس الوفد {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي ارجع إليهم بهديتهم فواللهِ لنأتينَّهم بجنودٍ لا طاقة لهم بمقابلتها، ولا قدرة لهم على قتالها {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ولنخرجنهم من أرضهم ومملكتهم أذلاء حقيرين إن لم يأتوني مسلمين قال ابن عباس: لما رجعت رسلُ بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم ارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف قائد.