{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29)فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(30)وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ(31)اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(32)}.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس: قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءانَسْتُ نَارًا} أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراً عن بعد قال المفسرون: كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته، وأخذ أهله الطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على الطريق فذلك قوله تعالى {لَعَلِّي ءاتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي لعلي آتيكم بخبر الطريق وأرى من يدلني عليه {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي نودي يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير، المنزه عن صفات النقص، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير: انقلبت العصا إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السريعة مع عِظَم خلقتها، واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها منحدرة في واد، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي فنودي يا موسى: ارجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف، فرجع وأدخل يده في فم الحية فتحولت إلى عصا {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةً منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قال ابن عباس: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون: المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ} أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك، وهما آيتان إلى فرعون وأشراف قومه الطُغاة المتجبرين على صدق نبوّتك { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، مخالفين لأمرنا.