هجوم جيوش بصرى على المسلمين وقيادة خالد للمعركة
فلما كان في اليوم الثاني زحفت جيوش بصرى على المسلمين فقال خالد: إن الروم زحفوا لعلمهم بتعبنا وتعب خيولنا فاركبوا بارك الله فيكم واحملوا على بركة الله تعالى.
قال: فركب المسلمون وأخذوا أهبتهم للحرب فجعل في الميمنة رافع بن عمير الطائي وجعل في الميسرة ضرار بن الأزور وكان غلافًا فاتكًا في الحرب وجعل على الدرك عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم قسم جيش الزحف فجعل على شطره المسيب بن نجيبة الفزاري وعلى الشطر الآخر مذعور بن غانم الأشعري وأمرهم أن يزفوا الخيل إذا حملت.
قال: وبقي خالد في الوسط وهو يعظ الناس ويوصيهم وقد عزموا على الحملة وإذا بصفوف الروم قد انشقت وخرج من وسطها فارس عظيم الخلقة كثير الزينة يلمع ما عليه من الذهب الأحمر والياقوت.
فلما توسط الجمعين نادى بلسان عربي كأنه بدوي: يا معشر العرب لا يبرز لي إلا أميركم فأنا صاحب بصرى.
قال: فخرج إليه خالد رضي الله عنه كالأسد الضرغام وقرب منه.
فقال له البطريق: أنت أمير القوم.
قال: كذلك يزعمون أني أميرهم ما دمت على طاعة الله ورسوله فإن عصيته فلا إمارة لي عليهم.
قال البطريق: إني رجل عاقل من عقلاء الروم وملوكهم وإن الحق لا يخفى عن ذي بصيرة واعلم أني قرأت الكتب السابقة والأخبار الماضية فوجدت أن الله تعالى يبعث قرشيًا واسمه محمد بن عبد الله.
قال خالد: والله نبينا.
قال: أنزل عليه الكتاب قال: نعم القرآن.
قال روماس البطريق: أحرم عليكم فيه الخمر.
قال خالد: نعم من شربها حددناه ومن زنى جلدناه وإن كان محصنًا رجمناه.
قال: أفرضت عليكم الصلوات.
قال: نعم خمس صلوات في اليوم والليلة.
قال: أفرض عليكم الجهاد قال خالد: ولولا ذلك ما جئناكم نبغي قتالكم.
قال روماس: والله إني لأعلم أنكم على الحق وإني أحبكم وحذرت قومي منكم وإني خائف منكم فأبوا.
فقال خالد: فقل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يكون لك ما لنا وعليك ما علينا.
فقال: إني أسلمت وأخاف أن يعجل هؤلاء بقتلي: وسبي حريمي ولكن أنا أسير إلى قومي وأرغبهم فلعل الله أن يهديهم.
فقال خالد: وإن رجعت إلى قومك بغير قتال يكون بيني وبينك خفت عليك ولكن احمل علي حتى لا يتهموك وبعد ذلك أطلب قومك.
فحمل بعضهم على بعض وأرى خالد الفريقين أبوابًا من الحرب حتى أبهر روماس.
فقال لخالد: شدد علي الحملة حتى يرى الديرجان فإني خائف عليك من بطريق بعث به الملك يقال له الديرجان.
فقال خالد: ينصرنا الله عليه ثم شدد على روماس الحملة حتى إنه انهزم من بين يديه إلى قومه.
فلما وصل إلى قومه قال: ما الذي رأيت من العرب قال: إن العرب أجلاد ما لكم بقتالهم طاقة ولا بد لهم أن يملكوا الشام وما تحت سريري هذا فادخلوا تحت طاعتهم وكونوا مثل أركة والسخنة قال: فلما سمعوا كلامه زجروه وأرادوا قتله وقالوا له: ادخل المدينة والزم قصرك ودعنا لقتال العرب فانصرف روماس وقال: لعل الله ينصر خالدًا.
ثم إن أهل بصرى ولوا عليهم الديرجان وقالوا: إذا فرغنا من المسلمين سرنا معك إلى الملك ونسأله أن ينزع روماس ويوليك علينا.
قال الديرجان: وما الذي تريدون.
فقال عبد الرحمن لخالد: يا أمير أنا أخرج إليه.
فقال: دونك يا ابن الصديق فخرج عبد الرحمن وحمل على الديرجان فما لبثوا غير ساعة وقد أحس الديرجان من نفسه بالتقصير فولى منهزمًا وراح إلى قومه.
فلما رأوا ذلك منه نزل الرعب في قلوبهم وعلم خالد ما عند القوم من الفزع فحمل وحمل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وحمل المسلمون.
فلما نظر أهل بصرى إلى حملة المسلمين حملوا وتلاقى الفريقيان وضجت الرهبان بكلمة كفرهم.
فقال شرحبيل بن حسنة: اللهم إن هؤلاء الأنجاس يبتهلون بكلمة كفرهم ويدعون معك إلها آخر لا إله إلا أنت ونحن نبتهل إليك بلا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك ورسولك إلا ما نصرت هذا الدين على أعدائك المشركين ثم حملوا حملة واحدة فلم يكن للروم ثبات مع العرب فولى المشركون الأدبار وركنوا إلى الفرار.
فلما حطوا داخل المدينة أغلقوا الأبواب وتحصنوا بالأسوار ورفعوا الصلبان وعولوا أن يكتبوا للملك ليمدهم بالخيل والرجال.
قال عبد الله بن رافع: فلما تحصنوا رجعنا عنهم وافتقدنا أصحابنا فوجدنا قد قتل منا مائة وثلاثون فارسًا وقتل من الأعيان بدريان.
قال: وغنم المسلمون الأموال وصلى خالد على الشهداء وأمر بدفنهم.
فلما كان الليل تولى الحرس عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومعمر بن راشد ومائة من جيش الزحف.
فبينما هم يدورون حول العسكر وإذا بروماس صاحب بصرى قد أقبل عليهم.
وقال لهم: أين خالد بن الوليد فأخذوه وأتوا به إلى خالد.
فلما رآه رحب به.
فقال: أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي وقالوا: الزم قصرك وإلا قتلناك فلزمت قصري وهو ملاصق للسور ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا.
فلما جن الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه بابًا فأتيتك فأرسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة.
فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مائة من المسلمين ويسيروا مع روماس.
قال ضرار بن الأزور: وكنت ممن دخل المدينة.
فلما صرنا في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة أقسام كل جانب خمسة وعشرون رجلًا.
وقال لنا عبد الرحمن: إذا سمعتم التكبير فكبروا.
فلما سرنا حيث أمرنا أخذنا أنفسنا بالحملة على القوم.
قال الواقدي: بلغني ممن أثق به من الرواة أن عبد الرحمن لما فارق أصحابه لبس سلاحه وسار هو وروماس يطلبون الدرج الذي عليه الديرجان وسار معهم ضرار ورافع وشرحبيل بن حسنة.
فلما قرب عبد الرحمن من الدرج الذي فيه الديرجان قال الديرجان: من أنتم فقال: أنا روماس.
فقال: لا أهلًا ولا مرحبًا بك ومن الذي معك قال: معي صديق لك ومشتاق إلى رؤياك قال: ويحك ومن هو يا روماس.
قال: هذا ابن أبي بكر الصديق.
فلما سمع الديرجان ذلك هم أن يقتله فلم تطاوعه نفسه فحمل عليه عبد الرحمن وهز سيفه في وجهه وضربه على عاتقه فتجندل صريعًا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار.
قال: وكثر عبد الرحمن فأجابه روماس وسمع أصحابه التكبير فكبروا من جوانب بصرى.
قال: وأجابتهم الأحجار والأشجار.
قال: وكبر المسلمون من جوانب بصرى ووضعوا السيف في الروم وسمع خالد التكبير فصرخوا وإذا بغلمان روماس وأولاده قد فتحوا لهم الأبواب فعبر خالد ومن معه من المسلمين.
فلما نظر أهل بصرى إلى الأبواب وقد فتحت بالسيف قهرًا ضجوا بأجمعهم يقولون: الأمان الأمان.
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ارفعوا السيف عنهم وأقام خالد إلى الصباح واجتمع إليه أهلها.
وقالوا: يا أيها الأمير لو صالحناك ما جرى شيء من ذلك ولكن نسألك بالذي أيدك ونصرك ما الذي فتح لك أبواب مدينتنا.
فاستحى خالد رضي الله عنه أن يقول فوثب روماس وقال: أنا فعلت ذلك يا أعداء الله وأعداء رسوله وما فعلته إلا ابتغاء مرضاة الله وجهادًا فيكم.
فقالوا: أولست منا فقال: اللهم لا تجعلني منهم رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالكعبة قبلة وبالقرآن إمامًا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
قال: ففرح خالد بذلك.
وأما أهل بصرى فغضبوا وأضمروا له شرًا وعلم بذلك روماس.
فقال لخالد: أنا لا أريد المقام عندهم وإني أسير معك حيث سرت.
فإذا فتح الله على يديك قال الواقدي: حدثني معمر بن سالم عن جده قال: كان روماس يجاهد معنا جهادًا حسنًا حتى فتح الله على أيدينا الشام فكان أبو عبيدة يكاتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيامه فولاه على بصرى فلم يلبث إلا يسيرًا حتى توفي رحمه الله وخلف عقبًا يذكر به قال: وأمر خالد رجالًا يعينونه على إخراج رحله وماله من المدينة ففعلوا ذلك وإذا بزوجته تخاصمه وتطلب فراقه.
فقال لها المسلمون: ما الذي تريدين قالت: أريد أمير جيشكم يحكم بيننا فجاءوا بها إلى خالد فقالت له: أنا أستغيث بك من روماس.
فقال لها خالد: وكيف ذلك فقالت: إني كنت البارحة نائمة إذ رأيت شخصًا ما رأيت منه أحسن منه وجهًا كأن البدر يطلع من بين عينيه وكأنه يقول: إن المدينة فتحت على يد هؤلاء القوم والشام والعراق.
فقلت له: ومن أنت يا سيدي.
قال: محمد رسول الله ثم دعاني إلى الإسلام فأسلمت ثم علمني سورتين من القرآن.
قال: فحدث الترجمان خالد بما كان منها.
فقال: إن هذا لعجيب ثم قال خالد للترجمان: قل لها أن تقرأ السورتين فقرأت الفاتحة وقل هو الله أحد ثم جددت إسلامها على يد خالد بن الوليد وقالت: يا أيها الأمير إما أن يسلم روماس وإلا يتركني أعيش بين المسلمين.
قال: فضحك خالد من قولها وقال: سبحان الله الذي وفقهما جميعًا.
ثم قال للترجمان: قل لها إن روماس أسلم قبلها ففرحت بذلك.
ثم إن خالدًا أحضر أهل بصرى وقررهم على أداء الجزية وولى عليهم من اتفق رأيه عليه.