توجه خالدبن الوليد وجنوده إلى دمشق
ثم كتب إلى أبي عبيدة كتابًا يبشره بالفتح ويقول له: يا صاحب رسول الله قد ارتحلنا إلى دمشق فألحقنا إليها.
ثم كتب كتابًا آخر إلى أبي بكر الصديق يخبره برحيله ويقول له: يوم كتبت إليك هذا الكتاب ارتحلت إلى دمشق فادع لنا بالنصر والسلام عليك ومن معك ورحمة الله وبركاته.
ثم بعث الكتابين كلاهما ثم ارتحل خالد إلى نحو دمشق حتى أشرف على موضع يقال له الثنية فوقف هناك وركز راية العقاب فسميت بذلك ثنية العقاب.
ثم ارتحل منها إلى الدير المعروف الآن بدير خالد وكان أهل السواد قد التجئوا إلى دمشق وقد اجتمعت خلائق وأمم لا تحصى من الرجال.
وأما أصحاب الخيل فكانوا اثني عشر ألفًا وقد زينوا أسوارهم بالطوارق والبيارق والصلبان وأقام خالد على الدير ينتظر قدوم المسلمين.
قال الواقدي: ووصلت الأخبار إلى الملك هرقل وما فتح خالد من الشام وكيف قدم على دمشق فغضب وجمع البطارقة وقال: يا بني الأصفر لقد قلت لكم وحذرتكم فأبيتم وهؤلاء العرب قد فتحوا أركة وتدمر والسخنة وبصرى وقد توجهوا إلى الربوة ففتحوها فواكرباه لأن دمشق جنة الشام وقد سارت إليها الجيوش وهم أضعاف العرب ثم قال: أيكم يتوجه إلى قتال العرب ويكفيني أمرهم فإن هزمهم أعطيته ما فتحوه ملكًا.
فقال بطريق من البطارقة اسمه كلوس بن حنا وكان من فرسانهم وقد عرفت شجاعته في عساكر الروم والفرس: أيها الملك أنا أكفيك وأردهم على أعقابهم منهزمين.
قال: فلما سمع الملك قوله سلم إليه صليبا من الذهب وقدمه على خمسة آلاف فارس وقال له: قدم صليبك أمامك فإنه ينصرك.
قال: فأخذه كلوس وسار من يومه من أنطاكية إلى أن وصل حمص فوجدها مزينة بالسلاح فلما بلغ أهلها قدومه خرجوا إلى لقائه وقد خرجت القسس والرهبان واستقبلوه ودعوا له بالنصر وأقام بحمص يومًا وليلة ثم أرتحل إلى مدينة بعلبك فخرج إليه النساء لاطمات الخدود وقلن: أيها السيد إن العرب فتحوا أركة وحوران وبصرى فقال لهن: كيف قدرت العرب على حوران وبصرى.
فقلن: أيها السيد إن الذين ذكرتهم لم يبرحوا من أماكنهم وإن هذا الرجل قد أقبل من العراق وهو الذي فتح أركة.
فقال: وما اسمه.
قلن: خالد بن الوليد.
قال: في كم يكون من العساكر.
قلن: في ألف وخمسمائة فارس.
فقال: وحق المسيح لأجعلن رأسه على رأس سناني.
ثم رحل فلم ينزل إلا بدمشق وكان واليها بطريقًا من قبل الملك هرقل اسمه عزازير فلما قدم كلوس اجتمع عليه عزازير وأصحابه وقرأوا عليهم منشور الملك ثم قال لهم: أتريدون أن أقاتل عدوكم وأصده عن بلادكم.
قالوا: نعم فقال: أخرجوا عزازير عنكم حتى أكون وحدي في هذا الأمر.
فقالوا: أيها السيد وكيف ينبغي أن يخرج صاحبنا من بلدنا وهذا العدو قاصد إلينا.
قال: فغضب عزازير في وجه كلوس من كلامه وقد اتفق رأيهم على أن كل واحد يقاتل العرب يومًا فثبتت عداوة عزازير في قلب كلوس.
قال الواقدي: ولقد بلغني أنهم كانوا يخرجون كل يوم من باب الجابية مقدار فرسخ ينظرون قدوم أبي عبيدة بن الجراح فلم يشعروا حتى قدم إليهم خالد بن الوليد من نحو الثنية قال: حدثنا يسار بن محمد.
قال: أخبرنا رفاعة بن مسلم.
قال: كنت في جيش خالد بن الوليد لما نزل على الدير المعروف به وإذا بجيش الروم قد زحف علينا وهو كالجراد المنتشر فلما نظر خالد ذلك تدرع بدرع مسلمة ثم صرخ في وجه المسلمين.
وقال: هذا يوم ما بعده يوم وهذا العدو قد زحف بخيله فدونكم والجهاد فانصروا الله ينصركم وكونوا ممن باع نفسه لله عز وجل وكأنكم بإخوانكم المسلمين قدموا عليكم مع أبي عبيدة بن الجراح ثم بعد ذلك استقبل الجيش وصرخ بملء رأسه فأرعب المشركين من صرخته وحمل شرحبيل بن حسنة وعبد الرحمن بن أبي بكر وضرار بن الأزور ومذ حمل ضرار لم يول عنهم بل قتل من الميمنة خمسة فرسان ومن الميسرة كذلك.
ثم حمل ثاني مرة فقتل منهم ستة فرسان ولولا سهام القوم لما رد عن قتالهم فشكره خالد بن الوليد وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: احمل بارك الله فيك.
قال: فحمل عبد الرحمن وفعل كما فعل ضرار بن الأزور وقاتل قتالًا شديدًا.
ثم حمل من بعده خالد بن الوليد ورفع رمحه ورأى العسكر من أمور الحرب حتى جزع الروم من شجاعته.
فلما نظر إليه البطريق كلوس علم أنه أمير الجيش وعلم أنه يقصده فتأخر كلوس إلى ورائه من مخافته.
فلما نظر خالد إلى قهقرة كلوس إلى ورائه حمل عليه ليرده فوقعت عليه البطارقة ورموه بالسهام فلم يلتفت إليهم خالد ولم يعبأ بهم ولم يرجع حتى قتل عشرين.
ثم انثنى بجواده بين الصفين وجال بجواده بين الفريقين وطلب البراز فلم يجبه أحد وقالوا: أخرجوا غيره منكم.
فقال: ويلكم ها أنا رجل واحد من العرب وكلنا في الحرب سواء فما منهم من فهم كلامه فأقبل عزازير على كلوس وقال: أليس الملك قد قدمك على جيشه وبعثك إلى قتال العرب فدونك حام عن بلدك ورعيتك.
فقال كلوس: أنت أحق مني بذلك لأنك أقدم مني وقد عزمت أنك لا تخرج إلا بإذن الملك هرقل فما بالك لا تخرج إلى قتال أمير العرب.
فقال لهما العساكر: تقارعا فمن وقعت عليه القرعة فلينزل إلى قتال أمير العرب.
فقال كلوس: لا بل نحمل جميعًا فهو أهيب لنا قال: وخاف كلوس أن يبلغ الملك ذلك فيطرده من عنده أو يقتله.
قال: فتقارعا فوقعت القرعة على كلوس.
فقال عزازير: اخرج وبين شجاعتك فقال كلوس لأصحابه: أريد أن تكون همتكم عندي فإن رأيتم مني تقصيرًا فاحملوا وخلصوني.
فقال أصحابه: هذا كلام عاجز لا يفلح أبدًا فقال: يا قوم إن الرجل بدوي ولغته غير لغتي فخرج معه رجل اسمه جرجيس وقال له: أنا أترجم لك فسار معه.
فقال كلوس: اعلم يا جرجيس أن هذا رجل ذو شجاعة فإن رأيته غلبني فاحمل أنت عليه حتى نقضي يومنا معه ويخرج له غدا عزازير فيقتله ونستريح منه وأتخذك أنا صديقي.
فقال له: ما أنا أهل حرب وإنما أخوفه بالكلام.
قال: فسكت وسارا حتى قربا من خالد فنظر إليهما.
قال: فهم أن يخرج إليهما رافع بن عميرة فصاح فيه خالد وقال: مكانك لا تبرح فإني كفء لهما فلما دنوا من خالد.
قال كلوس لصاحبه: قل له من أنت وما تريد وخوفه من سطواتنا فقرب جرجيس من خالد وقال له: يا أخا العرب أنا أضرب لك مثلًا إن مثلكم ومثلنا كمثل رجل له غنم فسلمها إلى راع وكان الراعي قليل الجرأة على الوحوش فأقبل عليه سبع عظيم فجعل يلتقط منه كل ليلة رأسًا إلى أن انقضت الأغنام والسبع ضار عليها ولم يجد له مانعًا عنها.
فلما نظر صاحب الغنم ما حل بغنمه علم أنه لم يؤت إلا من الراعي فانتدب لغنمه غلامًا نجيبًا فسقمه الغنم فكان كل ليلة يكثر الطوفان حول الغنم.
فبينما الغلام كذلك إذ أقبل عليه السبع على عادته الأصلية واخترق الغنم فهجم الغلام على السبع وبيده منجل فضربه فقتله ولم يقرب الغنم وحش بعدها وكذلك أنتم نتهاون بأمركم لأنه ما كان أضعف منكم لأنكم جياع مساكين ضعفاء وتعودتم أكل الذرة والشعير ومص النوى.
فلما خرجتم إلى بلادنا وأكلتم طعامنا وفعلتم ما فعلتم وقد بعث لكم الملك رجالًا لا تقاس بالرجال ولا تكترث بالأبطال ولا سيما هذا الرجل الذي بجانبي فاحذر منه أن ينزل بك ما أنزل الغلام بالأسد وقد سألني أن أخرج إليك وأتلطف بك في الكلام فأخبرني ما الذي تريد قبل أن يهجم عليك هذا الفارس.
فلما سمع خالد منه ذلك قال: يا عدو الله والله لا نحسبكم عندنا في الحرب إلا كقابض الطير بشبكة وقد قبضها يمينًا وشمالًا فلم يخرج إلا ما انفلت منه.
وأما ما ذكرت من بلادنا وأنها بلاد قحط وجوع فالأمر كذلك إلا أن الله تعالى أبدلنا ما هو خير منه فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل.
وهنا كله قد رضيه لنا ربنا ووعدنا به على لسان نبيه وأما قولك: ما الذي تريدونه منا.
فنريد منكم إحدى ثلاث خصال إما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال.
وأما قولك: إن هذا الرجل الذليل الذي هو عندكم مسكين فهو عندنا أقل القليل وإن يكن هو ركن الملك فأنا ركن الإسلام.
أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد.
أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.