قصة / حنكة القاضي
بقلم : أ / تحسين يحيى أبو عاصي * غزة- فلسطين *
*** **** *** ***
كان كبير قوم يقضي بين الناس بالحق ، وكان مشهود له بالعدل ونشر الخير
والإصلاح بين الناس ، وكان له من أبنائه شاب لا يؤمن بقدرة أبيه على حل
المعضلات الصعبة بين الناس ، أراد هذا الشاب أن يختبر والده ؛ ليتأكد من
مهارته وبراعته في القضاء بين الناس .
ترك الشاب والده وخرج بين القبائل ، يبحث عن رزقه في بلاد الله الواسعة ،
فاهتدى إلى بيت رجل متزوج من اثنتين ، ومكث عنده يعمل في الزراعة والحصاد
، من غير أن يعلم أحد أنه ابن ذلك القاضي الشهير .
كان للزوجة الثانية طفلا صغيرا ، رزقها الله به بعد زمن طويل من الحرمان ،
ولم يكن لزوجته الأولى أحد من الأبناء فقد كانت عاقرا ، وكان بين الزوجتين
تناحر وغيرة وشقاق ، وفي يوم من الأيام أصرَّت الزوجة الأولى في نفسها
مكيدة للزوجة الثانية ، فهي تشعر بأن زوجها لا يحبها كما يحب الزوجة
الثانية ، وأن زوجها يميل إلى الثانية بسبب طفلها ، أما هي فلا تملك
أطفالا ، وهكذا اشتعلت نيران الحقد في قلبها .
وفي حين غفلة ، وبينما كان الطفل الصغير يلهو فرحا ، اختطفته أيدي الزوجة الماكرة وألقت به في بئر للمياه فمات.
كان ابن القاضي الذي يعمل في الزراعة عند زوجها يرقب عن بُعد ٍ ما يحدث ،
ولكنه لا يستطيع الكلام ، كما لم تشعر به الزوجة القاتلة عندما فعلت
فعلتها .
اجتمعت العشيرة وتباحثوا فيما بينهم عن سبب قتل الطفل ، ومن الذي يقف من
وراء هذا الحدث الأليم المفزع ، واتجهت الأنظار صوب تلك المرأة ، ولكنهم
لا يملكون دليلا واحدا ضدها ، وأخيرا اتهمها زوجها بأنها من وراء قتل
الطفل ، أنكرت المرأة القاتلة بشدة ، وتدخلت عشيرتها ، وأصبحت كل زوجة
تتهم الأخرى أنها هي التي قتلت الطفل ، وكادت الحرب أن تقع بين العشائر ،
وأخيرا اتفق الجميع على القضاء العشائري ليحكم بينهم .
أجمع الحاضرون على التقاضي عند شيخ العشيرة الشهير ، والمشهود له بنزاهته
ونقائه وبراعته في القضاء بين الناس ، إنه القاضي أب العامل الذي يعمل
عندهم في المزرعة وهم لا يعلمون أن هذا العامل هو ابن ذلك القاضي .
كان العامل يجلس قريبا منهم ، يراقب ويستمع لما يدور من هنا وهناك ، وقال
في نفسه : إنني تركت والدي لأنني لا أثق بقدرته على حل المعضلات الصعبة
والآن تشهد له الناس بالخير والنزاهة والذكاء ، فهذه واحدة بحق أبي
ولأنتظر الثانية .
ذهب الجميع إلى القاضي وبينهم ابنه الذي اعتبر أن هذه فرصة قوية لاختبار
والده في حل المعضلات الصعبة بين الناس ، وكان ابنه متخفيا بلثام ، بدأ
الحاضرون يقصّون للقاضي ما حدث بشأن الطفل المغدور ، وابنه يستمع باهتمام
كبير، ينتظر حكم والده .
بعد أن انتهى الجميع من كلامهم ، قال القاضي للزوجة الثانية أمّ الطفل :
اعرف انك لم تقتلي الطفل وأنك أمه الرءوفة الطيبة ، ولكنني أريد منك طلبا
واحدا فقط سوف يثبت من خلاله براءتك أمام العشائر .
قالت له وما هو ؟ قال لها : أريد منك أن ترفعي ثوبك عن ساقيك أمام جميع
الحاضرين ثم تمشي من أمامنا خمسين مترا ، صرخت في وجهه غاضبة مقسمة أن لو
مات العرب جميعهم ، وعن بكرة أبيهم ما فعلْت ما تطلبه مني .
توجه القاضي إلى الزوجة الأولى التي قتلت الطفل وطلب منها ما طلبه من
الثانية فقالت له : أرفع ثوبي وأثبت براءتي بإظهار الساقين الاثنتين وليست
ساق واحدة .
عندئذ أصدر القاضي حكمه أمام جميع الحاضرين قائلا : أنت التي قتلت الطفل .
كشف ابن القاضي اللثام عن نفسه وقف قائلا بأعلى صوته : أشهد يا أبي بأنك
القاضي الحق النزيه ، شهد العرب لك ببراعتك وبعدلك ، وبحسن تصرفك ، فقد
رأيتها بعيني تلقي بالطفل في بئر للمياه .
انتهت القصة وعاش تراثنا الفلسطيني ، وبسلم لي القارئ يا رب .
منقول