الشطارة في الصبر
من التراث الشعبي الفلسطيني
أ / تحسين يحيى أبو عاصي * غزة – فلسطين *
*** *** *** ***
من فم رجل اقترب على المائة عام :
كان أيام البلاد في الثلاثينات ، وفي قرية من قرى جنوب فلسطين اسمها قرية
الكوفخة ، وهي قرية تقع بين مدينتي غزة وبئر السبع ، كان ثلاثة من الجيران
وكان لكل جار منهم مارس من الأرض أو مِقْتاة ، يُقدر بثلاثين دونما ، كان
الثلاثة يسكنون في مارسهم ، يخرجون كل يوم من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس
يزرعون ويحصدون ، ويفلحون ويعيشون الحياة الهادئة الآمنة ، يسود بينهم
الحب والتآلف والإحترام ، يأكلون ويبيعون من مارسهم ، ويُربُّون الطيور
والحيوانات ، ولا يحتاجون السوق في كثير ولا قليل ، وكان لكل واحد منهم
مجموعة من الشباب الأقوياء ، هم أبنائه وثمرة فؤاده .
وفي يوم من الأيام ، أقبل راع ٍ بقطيع ٍ من الأغنام على المارس الأوسط ،
فعاث بأغنامه تحطيما وإتلافا فيه ، انتبه صاحب المارس إلى الراعي والغنم
يعيث في زرعه تخريبا ، ولم يتكلم ببنت شفه ، وفجأة طلب صاحب المارس من
الراعي أن يبيعه رأسا وافيا من رؤوس الأغنام ، استلم الراعي ثمن ما باعه
وانصرف عائدا بأغنامه ، نادى الرجل صاحب المارس على أبنائه الشباب ،
وكانوا في مكان من المارس يبعد عنه قليلا بحيث لم يروا ما حصل من الراعي ،
نادى عليهم وقال لهم : يكفي اليوم عمل ، انهوا أعمالكم وتعالوا للطعام ،
تساءل أبناؤه بينهم عن أمر لم يعتادوا عليه ، فمنذ سنوات طويلة وهم يعملون
من الفجر وحتى غروب الشمس ، أما اليوم فالأب يطلب منهم أن ينهوا أعمالهم
وقت الضحى ، واعتبروا ذلك أمرا غريبا لم يعتادوا عليه من قبل سألوا أباهم
عن الأمر فأجابهم : نريد أن نتناول طعام الغداء ونأخذ قسطا من الراحة معا .
وفي اليوم الثاني أقبل الراعي ذاته ، على مارس الأرض المجاورة للرجل من
ناحية اليمين ، وفعل بأغنامه ما فعله مع الجار السابق بالأمس ، صرخ عليه
صاحب المارس مزمجرا متوعدا : كيف تدخل بأغنامك مارسي وتعيث بزرعي تخريبا
وتحطيما ؟ جاء الراعي مسرعا وصفع الرجل صاحب المارس على وجهه ، رأى أولاده
الشباب ما حدث مع أبيهم فانطلقوا إليه مسرعين وأردوه قتيلا .
سمع الجار الأوسط بالخبر، وهو الذي عاث الراعي بالأمس في أرضه ، جمع
أولاده وقال لهم : انظروا ، هذا بالأمس كان يريد أن يموت على أيدينا ولكن
الله سلَّم ، والشطارة في الصبر .
وفي مرة ثالثة ، أقبل فارس فوق فرسه : واقتحم مارس الجار الآخر من يساره ،
ترجل الفارس من على فرسه ، وبدأ بقطف من الثمار ويضع في سرج فرسه ،
على مرآى ومسمع من صاحب المارس ، لم يتكلم صاحب المارس بكلمة واحدة ، وطلب
من أبنائه التزام الهدوء وعدم التعرض له ، حمل الفارس ما جمع من الثمار
فوق ظهر حصانه وسلاحه عن يمينه ، ثم سار مسافة مائتي متر وإذ بصوت طلقات
من الرصاص تدوي في المكان ، انطلق الرجل وأبناؤه نحو صوت الرصاص ليجدوا
الفارس جثة هامدة يسبح في دمه ، وقد كان يعبث في سلاحه ، قال الأب لأبنائه
: انظروا لو لم تصبروا عليه قليلا لمات على أيديكم ، والشطارة في الصبر .
طاب لسانك يا تراثنا
ويسلم لي القارئ يا رب
منقول