معركة أجنادين
قال الواقدي: فلما أصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب أصحابه لأهبة الحرب فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال: يا معاشر العرب أريد أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين وحقق الدماء بينهما.
قال فخرج إليه خالد بن الوليد.
فقال له الفارس: إن وردان يريد أن تنتظره حتى تتكلم معه.
فقال خالد: السمع والطاعة ارجع وأخبره فعند ذلك خرج وردان وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج.
فقال خالد عندما رآه: هذه غنيمة للمسلمين إن شاء الله تعالى.
قال فلما نظر عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما وقد جعل عدو الله سيفه على فخذه فقال له خالد: قل ما تشاء واستعمل الصدق والزم طريق الحق وأعلم أنك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل.
فقل: ما تريد.
فقال وردان: يا خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الأمر بيني وبينكم فإن كنت تطلب منا شيئًا فلا نبخل به عليك صدقة منا عليكم لأننا ليس عندنا أمة أضعف منكم وقد علما أنكم كنتم في بلاد قحط وجوع تموتون جوعًا فاقنع منا بالقليل وارحل عنا.
فلما سمع منه خالد هذا الكلام قال له: يا كلب الروم إن الله عز وجل أغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم نتقاسمهما بيننا وأحل لنا نساءكم وأولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وإن أبيتم فالحرب بيننا وبينكم أو الجزية عند يد وأنتم صاغرون وبالله أقسم إن الحرب أشهى لنا من الصلح.
وأما قولك يا عدو الله لم لكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب وإن الواحد منا يلقي ألفًا منكم بعون الله تعالى وما هذا خطاب من يطلب الصلح فإن كنت ترجو أن تصل إلي بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما تريد.
قال: فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن يجرد سيفه وتشابكا وتقابضا وتعانقا.
قال: فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال لأصحابه: بادروا الآن الصليب قد مكنني من أمير العرب فما استتم كلامه حتى بادر إليه الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور وقد رموا النشاب عنهم وجردوا سيوفهم وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه وهو يزأر كالأسد وأصحابه من ورائه فالتفت عدو الله ونظر إلى القوم وهم يتسابقون إليه وهو يظن أنهم قومه حتى أنهم وصلوا إليه ونظر في أوائلهم ضرار بن الأزور.
فقال لخالد: سألتك بحق معبودك أن تقتلني أنت بيدك ولا تدع هذا الشيطان يقتلني.
فقال خالد: هو قاتلك لا محالة فهز ضرار سيفه وقال: يا عدو الله أين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال خالد: اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ثم وصل إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزوا سيوفهم في وجهه ومرادهم أن يقتلوه ونظر عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير بإصبعه الأمان الأمان.
فقال خالد: يا عدو الله لا نعطي الأمان إلا لأهل الأمان وأنت أظهرت لنا المكر والخديعة {والله خير الماكرين} [آل عمران: 45]. فلما سمع ضرار كلام خالد لم يمهله دون أن ضربه على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه ثم أخذ التاج من على رأسه.
وقال: من سبق إلى شيء كان أولى به ولد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه إربًا إربًا وتبادروا إلى سيفه فأخذوه ثم إن خالدًا قال لأصحابه: إني أريد أن تحملوا على الروم لأنهم مشتاقون إلى أصحابهم.
قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر الروم.
فلما وصل خالد الصفوف نادى: يا أعداء الله هذا رأس صاحبكم وردان.
.
أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه رمى الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون.
فلما رأى الروم رأس وردان ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى الغروب.
قال عامر بن الطفيل الدوسي: كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع المنهزمين إلى طريق غزة إذ أشرف علينا خيل فظننا أنها نجدة من عند الملك هرقل فأخفنا على أنفسنا وإذا بالغبرة قد قربت منا فإذا هي عسكر قد أرسلها أبو بكر قال الواقدي: وكان الروم بأجنادين تسعين ألفًا فقتل منهم في ذلك اليوم خمسون ألفًا وتفرق من بقي منهم فمنهم من انهزم إلى دمشق ومنهم من انهزم إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها وأخذوا منهم صلبان الذهب والفضة فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال خالد: لست أقسم عليكم شيئًا إلا بعد فتح دمشق إن شاء الله تعالى وكانت الوقعة بأجنادين لليلة ست خلت من جمادى الأول سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة ثم إن خالدًا رضي الله عنه كتب كتابًا إلى أبي بكر يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك.
أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأزيد حمدًا وشكرًا على المسلمين ودمارًا على المتكبرين المشركين وانصداع بيعتهم وإنا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم وتقاسموا بدينهم أن لا يفروا ولا ينهزموا.
.
.
فخرجنا إليهم واستعنا بالله عز وجل متوكلين على الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر وكتب الله على أعدائنا القهر فقاتلناهم في كل واد وسبسب وجملة من أحصيناهم ممن قتل من المشركون خمسون ألفًا وقتل من المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة وخمسون رجلًا ختم الله لهم بالشهادة منهم عشرون رجلًا من الأنصار ومن أهل مكة ثلاثون رجلًا ومن حمير عشرون والباقي من أخلاط الناس ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخر ونحن راجعون إلى دمشق إن شاء الله تعالى فادع لنا بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الرحمن بن حميد وأمره بالمسير إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وسار خالد بالمسلمين طالب دمشق.
قال الواقدي رحمة الله عليه: ولقد بلغني أن أبا بكر الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد.
فلما رآه تسابقت إليه أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت قال: من الشام وإن الله قد نصر المسلمين فسجد أبو بكر الصديق لله شكرًا وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر وقال: يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرًا فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهرًا فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس من كل مكان فقرأه أبو بكر ثاني مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر وأقبل إلى المدينة من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم حقائد وضغائن والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وأرادوا أن يطفوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ونحن مع ذلك نقول: ليس مع الله غالب.
فلما أن أعز الله ليننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفًا من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين والصواب أن لا نقربهم.
فقال أبو بكر: لا أخالف لك قولًا ولا أعصي لك أمرًا.
قال وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا جمعهم إلى أبي بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره وعلي بن أبي طالب عن يمينه والناس حوله فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه وجلسوا بين يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلامًا فكان أول من تكلم أبو سفيان بن حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر كنت لنا مبغضًا في الجاهلية فلما هدانا الله تعالى إلى الإسلام هدمنا ما كان في قلوبنا لأن الإيمان يهدم الشرك وأنت بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن الخطاب قديمًا وحديثًا أما آن لك أن تغسل ما بقلبك من الحقد والتنافر وإنا لنعلم أنك أفضل منا وأسبق في الإيمان والجهاد ونحن عارفون بمرتبتكم غير منكرين.
قال: فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا الكلام.
فقال أبو سفيان: إني أشهدكم أني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات مكة.
فقال أبو بكرة اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون واجزهم بأحسن ما يعملون وارزقهم النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم {إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26].
قال الواقدي: فما تقدمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله وكان مالك يحب سيدنا عليًا وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عوم على الخروج مع الناس إلى الشام.
كتاب أبو بكر إلى خالد قال الواقدي: واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتابًا إلى خالد بن الوليد يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله إلى خالد بن الوليد ومن معه عن المسلمين.
أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيكم وآمركم بتقوى الله في السر والعلانية وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين من النصر وهلاك الكافرين وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر إلى حمص وأنطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر وانزل على المدينة العظمى أنطاكية فإن بها الملك هرقل فإن صالحك فصالحه وإن حاربك فحاربه ولا تدخل الدروب وأقول هذا وإن الأجل قد قرب ثم كتب: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]. ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن وقال له: أنت كنت الرسول من الشام وأنت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته يطوي المنازل والمناهل إلى أن وصل إلى دمشق.