فتوح مدينة نشاور
وهي آخر فتوح العجم والعراق قال الواقدي: وكان من قضاء الله وقدره أن ابن كسرى لما انهزم من المدائن مضى إلى حلوان وانضاف إليه كل من وصل إليه من المنهزمين من الأساورة والمرازبة والدليم وغيرهم فقام فيهم خطيبًا وذكر زوال ملكه وأسر ابنته وخزائنه وأمواله وبكى وبكت أرباب دولته ثم قال: يا أهل فارس إن الدنيا دنية الفعال سريعة الزوال قريبة الارتحال وهذا ملككم قد زال وعزكم قد حال ودياركم قد سبيت والعرب قد استولت على العراق ولا بد لهم منكم ولا غنى لهم عنكم وستنظرون خيلهم وقد طلبت خراسان والري وهمذان وما بقي لكم جهة تتوجهون إليها إلا بلاد آبائكم وأجدادكم فانتبهوا وانتهزوا الفرصة وأزيلوا الغصة وأدركوا ما بقي من أيامكم ولا ترتدوا على أدباركم وقد بلغني أن الدنوس العادي بن هر بن كيقباد بن يزدجرد التقي هو الإسكندر بن القليس الرومي ما زالا يقاتلان ويقتتلان حتى قتل أحدهما فشمر أنتم عن ساق الجد ودونكم والقوم هذه الكرة إما لكم وإما عليكم فلعل النار والنور ينصرانكم وأنفق فيهم ما كان معه فاستعدوا للقاء وأخذوا على أنفسهم وضربوا خيامهم في مرج حلوان وجاء علماء دينهم وأوقدوا لهم النار وقربوا لها القربان وتحالفوا أن لا ينهزموا ولو ماتوا عن آخرهم قال ومضت نساؤهم وبنات ملوكهم وأبطالهم الذين قتلوا في الثياب ملطخات بالدماء وهن يستفزون الجيوش والعساكر من بلاد العجم وغيرها قال: وإن الحجاب والمرازبة والأساورة تعاهدوا على أن لا يفروا أو يموتوا عن آخرهم.
قال الواقدي: حدثني محمد بن عاصم بالكوفة بعدما أخذها المسلمون.
وقال: لما فتحت المدائن وأخذها المسلمون وطنًا فما كان دأبهم إلا يحفروا دور الفرس ويخرجوا خباياهم وأموالهم قال عبد الله بن جحفة: حضرت العرب وقد أخرجوا من إزاء القصر الأبيض مع مصنع هناك للفرس الأكاسرة تمثالًا من الذهب على صفة الفارس وقد كسبوا عليه الماء حتى غار في الأرض وكانت ملوك الفرس يفتخرون بذلك على سائر الملوك فوالله لو قسم ذلك على عرب بكر بن وائل لكان يسد منهم مسدًا وجاءت عيون المسلمين إلى سعد وأخبروه بما فعل القوم واجتماعهم في مرج حلوان في مائة ألف وقد وجهوا أثقالهم وما يعز عليهم في الجبل وهم يطلبون لقاءكم قال واجتمع المسلمون في الإيوان وقالوا: أيها الأمير إن العدو قد اجتمعوا بمرج حلوان وتعاهدوا على أن لا ينهزموا أبدًا ويموتوا عن دم واحد يريدون المدائن قال فكتب سعد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمه بذلك ويقول له: إن أهل الموصل قد مات ملكهم الأنطاق وقد تولى عليهم الشكان بن قالوص وارتدوا عن صلحنا وعول ملكهم على أن يكون عونًا لأهل فارس علينا والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته فلما وصل الكتاب إلى عمر أرسل يقول له: يا سعد اعلم أن الله منجز وعده.
وبعث إليه هاشم بن عتبة في اثني عشر ألف فارس من المهاجرين والأنصار ألفان والبقية من العرب.
قال: وإن ابن كسرى لما حصن حريمه وأمواله في الجبل أمر على العسكر مهران الداري ووصاه وسار مهران بالعسكر فركب معه ابن كسرى مقدار ميل وودعه ورجع إلى حلوان والمدد يأتي من سائر بلاد العجم.
قال ووصل مهران إلى مدينة نشاور ونزل بها في دار الولاية وأقام بها فلما كان الغد ركب في وجوه قومه ودار بهم على أسوارها وأبوابها وأمر بتحصينها في علو سورها ونصب آلات الحصار بالعرادات والمناجيق وحفر خندقًا عميقًا وصنع حسكًا من الحديد وجعله حول المدينة والخندق وما خلي من أهل البلد ضغيرًا ولا كبيرًا حتى استعمله في السور والخندق وادخر القوت وعلف الخيل وما يحتاجه للحصار واستوثق من أهل البلد الكبير والصغير منهم وأخذ رهائنهم وحلفهم على أن لا ينهزموا أبدًا.
قال: فلما اتفق ذلك كله أقام ينتظر قدوم المسلمين.
قال: وأما هاشم بن عتبة فإنه سار في اثني عشر ألف مجاهد حتى أشرف على مدينة نشاور فوجدها محصنة بالعدد والعدو قد أظهر الزينة والسلاح على الأبراج بالدروع والجواشن والمجانيق والعرادات والبيارق والأعلام ووضعوا في أركان المدينة على الأبراج قباب حديد ليضرموا فيها النار ويستنجدوا لها ويستنصروا بها على العرب فلما أشرف عليهم عسكر هاشم بن عتبة ضجوا بكلمة كفرهم وأشاروا إلى الشمس والنيران يسجدون لهما قال: والأرض ترتج من تحتهم والسماء ترعد من فوقهم والأكوان تسترجع وتصيح في هلاكهم فنودوا من قبل الله أن اسكنوا عن اضطرابكم فأنا الحليم الذي لا أعجل على من عصاني ولا أخيب من دعاني أنا الذي تسبح لي السموات ومن فيها والأرضون بنواحيها وقد سبق في علمي أن أطهر هذه الأرض من الأرجاس وأبدلها بمن قلت فيهم {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. أنا الذي أمهل ولا أهمل وعزتي وجلالي لأطهرن هذه الأرض من الكفرة الملحدين والفئة المفارقين ولأبدلن بيوت النار بمساجد أذكر فيها آناء الليل وأطراف النهار يعمرها رجال قد أحسنوا الظنون وذكرتهم في الكتاب المكنون {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 155].
قال الواقدي: حدثنا عمرو بن ربيعة الشيباني.
قال: أخبرنا أحمد الطويل قال: لما نزل هاشم بن عتبة على مدينة نشاور بمن معه من المسلمين لم يلتفتوا إليهم ولم يكترثوا بهم وأروهم التجلد والشدة وجعلوا يطاولونهم ولا يخرجون إليهم فصعب ذلك على المسلمين والمدد واصل إليهم من عند يزدجرد بن كسرى فاشتدت قلوب أعداء الله فقالوا لمهران الداري: أيها الصاحب ما الذي تنتظر بنا في قعودنا ومقامنا من وراء السور وقد اشتقنا إلى القتال فاخرج بنا إلى هؤلاء القوم فقد ضاقت صدورنا وضاقت بنا المدينة وهذه الشمس المنيرة تنصرنا وتظفرنا على أعدائنا وكذلك النار والنور فلما رآهم معولين على القتال أمرهم بالخروج وجعل على خيله جوزان بن جهران وأمره أن يزحف بالجيش فلما فتح باب المدينة وخرج الفرس فرح المسلمون بذلك وتبادروا إليهم بأسرار صافية وهمم وافية يطلبون القتال في مرضاة الله في الجلال وأنفسهم لذلك مستبشرة نازحة وهممهم إلى الحرب مسرعة فادحة وقد سلموا من سكنى دار الغرور واشتاقوا إلى سكنى القصور ومعانقة الحور وقالوا: إلهنا قد سئمنا من هذه الدار واشتقنا إلى دار القرار ومجاورة المختار فأنجزنا ما وعدتنا وسامحنا إذا توقيتنا وأجرنا من عذاب النار واحشرنا مع الكرام الأبرار الذين قلت في حقهم: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23 ،24].
قال: ولما ركب المسلمون جعل على مقدمة الخيل طلحة بن خويلد وبقي هاشم على الساقة.
فقال: أيها الناس والله لا تنال الجنة إلا بحسن الأعمال فاتركوا من قلوبكم الميل إلى دار اللهو والأهوال والمقام في دار الزوال.
جاهدوا لتدخلوا جنة عرضها السموات والأرض فهذه نار الحرب قد فاض تيارها وعلا دخانها وصفقت أمواجها وبدا فجاجها فاركبوا فيها سفينة النجاة والأنجاد واقطعوا بشراع الاجتهاد هذا الطريق وانشروا أعلام الصدق.
قال وقد اصطفت عساكر العجم ودقت بوقاتها ونشرت ازدهاراتها فهم كذلك إذ أقبل عليهم ملك الرقي في اثني عشر ألف فارس فلما رأى هاشم ذلك قال: يا فتيان العرب لا تنظروا إلى كثرتهم وفقتكم فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا وخذل الكافرين وقد كانت قريش في حدها وحديدها وعددها وعديدها ونصر الله نبيه ورسوله قال الله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } [البقرة: 49]. وإذا بالخيل قد حملت عليهم كأنهم السيل.
فقال هاشم: أخلصوا النيات ولا تولوا الأدبار واعلموا أنه قد تولى عليكم الجبار.
قال وأطبق الناس بعضهم ببعض وساروا بين البسط والقبض وازدحمت الأمم وقامت الحرب على قدم وقاتلت أبطال العجم وضربت بحرابها ورمت بصفاحها وفوقت بسهامها وأظلم الجو من الغبرة في الآفاق واعتمدوا على الضرب بالأسياف الرقاق وطعنت العرب بالرماح الدقاق وقلعت عرب اليمن بنبالها الأحداق ودنت الأعمار إلى المحاق وبلغت الأرواح التراق وعظم الأنين والزعاق وصبرت الأعاجم على ما لا يطاق وسماهم العرب من أسنة رماحهم كأس الفراق ولم يزالوا في القتال إلى أن ذهبت الأنوار وجاء الليل ومضى نور النهار وفي آخر يوم قدم القعقاع بن عمرو ومعه اثنا عشر ألف فارس فقويت قلوب المسلمين بقدوم عساكر الموحدين وأعلنوا بكلمة التوحيد فدوت من أصواتهم الجبال والتلال والرمال والحجر والشجر فلما سمع أعداء الله ما نطقوا به ارتعدت فرائصهم فاستقبلوهم بنيات صادقة وهمم متوافقة وأعلنوا بذكر كلمة الحق والصلاة على سيد الخلق فبذلوا صوارمهم في الأعداء وأوردوهم شراب الردى وقصدوا نحو أعدائهم وطلبوا بجهادهم منازل الجنة وطلقوا الدنيا بتاتًا وعلموا أنهم يصيرون أمواتًا وصاروا بعد الإلفة أشتاتًا فوقعت الهزيمة على عسكر العجم وحمل المسلمون في آثارهم وخذلهم الله فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا وهرب الباقون وأخذ المسلمون مدينة نشاور وغنموا ما فيها من الأموال وكان شيئًا لا يقع عليه حصر وأقاموا فيها وبنوا الجامع وذكروا الله فيه ذكرًا كثيرًا وأكمل الله لهم فتوح العراق وكتبوا بذلك كتابًا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمونه بذلك وبعثوا الخمس فوصل ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسر بذلك سرورًا عظيمًا فحمد الله تعالى كثيرًا وسرت المسلمون سرورًا زائدًا على ما فتح من بلاد كسرى وأعمالها على يد سعد بن وقاص واستوطنوا البلاد رضي الله عنهم أجمعين.