{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(15)تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.
سبب النزول:
نزول الآية (16):
قال الحسن البصري ومجاهد ومالك والأوزاعي: نزلت في المتهجدين الذين يقومون الليل إلى الصلاة.
ويدل على صحة هذا السبب ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسَّره الله تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثم قال:
ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } -حتى بلغ- {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذِرْوة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمُّك يا مُعاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".
ثم لما ذكر حال الأشقياء وعاقبتهم الوخيمة، أتبعه بذكر حال السعداء وما أعدَّه لهم من النعيم المقيم في دار الجزاء، ليظل العبد بين الرهبة والرغبة فقال {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} أي إِنما يصدّق بآياتنا المؤمنون المتقون الذين إِذا وعظوا بآياتنا سقطوا على وجوههم ساجدين لله تعظيماً لآياته {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي وسبحوا ربهم على نعمائه وهم لا يستكبرون عن طاعته وعبادته {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي تتنحى وتتباعد أطرافهم عن الفرش ومواضع النوم، والغرض أن نومهم بالليل قليلٌ لانقطاعهم للعبادة كقوله {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال مجاهد: يعني بذلك قيام الليل {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي يدعون ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته وثوابه {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومما أعطيناهم من الرزق ينفقون في وجوه البر والحسنات {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي فلا يعلم أحد من الخلق مقدار ما يعطيهم الله من النعيم، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثواباً لما قدموه في الدنيا من صالح الأعمال.