يزيد بن أبي سفيان وفتح صور
قال الواقدي: وكان عمرو بن العاص لما نزل على قيسارية وجه يزيد بن أبي سفيان في ألفي فارس إلى صور فلما سمع الدمستق أمر بالأبواب فأغلقت وصعدت الرجالة على الأسوار وعمروا الأبراج ونصبوا المجانيق وأدخل الدمستق يوقنا إلى قصر صور واستوثق منهم لئلا يتم عليه أمر منهم وبات القوم يحرسون وأضرموا نيرانهم على الأسوار فأقبلوا يرقصون ويشربون طول ليلتهم فلما كان الغد أشرف عليهم يزيد بن أبي سفيان فنظر إليهم الدمستق فلما رآهم قليلًا استحقرهم وطمع فيهم وقال: وحق المسيح لا بد لي من الخروج إليهم وهزم هذه الشرذمة اليسيرة.
ثم لبس الدمستق اللباس وأمرهم بالخروج وترك على حفظ يوقنا وأصحابه ابن عمه باسيل.
قال: وكان باسيل هذا ممن قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في دير بحيرا الراهب وكان باسيل قد مضى إلى زيارة بحيرا فلما قدمت عير قريش وجمال خديجة بنت خويلد وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر بحيرا إلى القافلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها والسحابة على رأسه تظله من حر الشمس فلما تبينه قال: والله هذه صفة النبي الذي يبعث من تهامة ثم انتظروا وإذا بالركب قد نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم نزل وحده تحت شجرة يابسة واستلقى إليها فأورقت الشجرة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عاين بحيرا ذلك صنع طعامًا لقريش واستدعاهم فدخلوا الدير وبقي هو مع الإبل ليرعاها فلما نظر بحيرا إليهم ولم يره في جملتهم قال: يا معشر قريش هل بقي منكم أحد.
قالوا: نعم بقي فينا من تخلف لحفظ القافلة ورعي الإبل.
قال: ما اسم من يرعى الإبل قالوا: محمد بن عبد الله.
قال: هل مات أبوه وأمه قالوا: نعم.
قال: هل كفله جده وعمه.
قالوا: نعم قال: يا قريش هو والله سيدكم وبه يعظم في الدنيا مجدكم قالوا: من أين علمت ذلك.
قال: لما أشرفتم علي من البرية لم يبق صخر ولا مدر إلا خر له ساجدًا.
قال الواقدي: فبقي باسيل في حيرة من أمرهم وكتم سره وعلم أن بحيرا لا يتكلم إلا بالحق فلما وقع يوقنا وأصحابه ووكله الدمستق على حفظهم قال: إن الإسلام هو الحق وقد بشر به بحيرا الراهب ولعل الله يغفر لي إذا حللت هؤلاء القوم.
قال الواقدي: من حسن تدبير الله لعباده المؤمنين أنه لما خرج الدمستق إلى لقاء يزيد بن أبي سفيان لم يتأخر أحد من شباب المدينة لا صغير ولا كبير إلا وخرج معه وبقيت العوام ينتظرون على الأسوار ما يكون بينهم وبين العرب فلما نظر باسيل إلى المدينة وخلوها واشتغال أهلها بالحرب أخذ رأيه على خلاص يوقنا ومن معه فأقبل إليهم بالليل والتفت إلى يوقنا وأصحابه وقال: أيها البطريق كيف تركت دين آبائك وأجدادك من قبل وعولت على دين هؤلاء العرب وما الذي رأيت من الحق حتى تبعتهم وقد كانت الروم تتخذك عضدًا لها وعونًا قال له يوقنا: يا باسيل ظهر لي من الحق ما ظهر لك من الحق فعرفته وقد هتف بي هاتف يقول لي: إن الذي هداك إلى دينه يخلصك وبشرني بالخلاص على يديك.
قال: فلما سمع زاد إيقانه وتحقق إيمانه وقال ليوقنا: لقد أنطق الله لسانك بالحق وإن الله كشف حجاب الغفلة عن قلبي منذ رأيت نبي هؤلاء القوم بدير بحيرا الراهب وهو في قافلة لأهل مكة ورأيت من دلائله أنه لا يسير على الأرض إلا والشجر تسير إليه والسحابة على رأسه تظلله ولقد استند إلى شجرة يابسة فأورقت في الحال وأنبأني بحيرا الراهب أنه وجد في العلم أن جماعة من الأنبياء استندوا إليها وجلسوا حولها فلم تورق فلما استند بظهره إليها أورقت أغصانها وأينعت فعجبت من ذلك وسمعت بحيرا يقول: هذا والله الذي بشر به المسيح فطوبى لمن تبعه وآمن به وصدقه فلما عدت من زيارة بحيرا سافرت إلى القسطنطينية بتجارة وطفت في بلاد الروم وأقمت ما شاء الله ثم عدت إلى قيسارية فرأيت الروم في هرج ومرج فسألت عن أحوالهم فقيل قد ظهر نبي في الحجاز اسمه محمد بن عبد الله وقد أخرجه قومه من مكة.
وقد أتى إلى المدينة التي بناها تبع وقد ظهر على قومه ونصر عليهم فما زلت أسأل عن أخباره وهي في كل يوم تنمو وتزيد حتى مات ثم ولى صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأنفذ جيوشه إلى الشام فلم يلبث إلا يسيرا ثم مات وولى هذا الرجل عمر بن الخطاب ففتح بلادنا وهزم جيوشنا وأنا مع ذلك أنتظر قدومهم إلى هذا الساحل حتى أتى الله بهم.
فقال له يوقنا: وما الذي عزمت عليه.
قال: عزمت والله أن أفارق قومي وأتبعكم فإن الحق بين ثم حل يوقنا وأصحابه وسلم إليهم العدد والسلاح وقال ليوقنا: اعلم أن مفاتيح أبواب المدينة عندي والعسكر خارج المدينة مشتغل بقتال العرب وليس في المدينة من يخاف جانبه فانهض على اسم الله.
فقال يوقنا: جزاك الله خيرًا فلقد هداك الله إلى دينه وسلك بك طريق النجاة وختم لك بخير.
ويجب الآن علينا أن نظهر أنفسنا ونبعث في المراكب حتى ينزلوا إلينا ونكون نحن يدًا واحدة.
فقال باسيل: سأفعل ذلك ثم إنه خرج لي حال الخفاء وفتح باب البحر ومعه رجل من بني عم يوقنا وركبا زورقًا حتى وصلا إلى البحر والمراكب وحدثاهم بما قد كان فأقبل كل مركب برجاله إليهما وساروا إلى أن نزل الجميع وحصلوا داخل المدينة أعني مدينة صور وأعمى الله أبصار الكفار فلما هموا أن يثوروا قال يوقنا: ليس هذا من الرأي وأين من يهب نفسه لله عز وجل ويخفي أمره ويخرج من الباب ويدور إلى عسكر المسلمين ويتوصل إلى أميرهم ويعلمه بما كان منا ويكون على أهبة وإذا سمع بنا أحد لا يهوله وليصدم جيش العدو فقال رجل من القوم: أنا أكون ذلك الرجل ثم خرج متنكرًا وأغلق باسيل خلفه ووصل إلى يزيد بن أبي سفيان وحدثه بالأمر على حقيقته وبما كان من أمر يوقنا فسجد لله شكرًا وبعث من ساعته إلى المسلمين ليأخذوا على أنفسهم في الكبة على القوم ففعلوا ذلك.
وأما يوقنا رحمه الله فلما علم أن الخبر وصل إلى المسلمين قال لأصحابه: ليصعد منكما خمسمائة رجل إلى السور ويقتلوا من عليه قال باسيل: ليس هذا رأيًا فإن العوام لا اعتبار لهم ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام ولكن مر أصحابك أن يلزموا مطالع السور حتى لا ينزل أحد منهم ويزعقوا بالأمان.
قال: فاستصوب رأيه ووكل الرجال بالمطالع ثم زعق يوقنا وأصحابه بصوت مزعج وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسمع كل من في المدينة ومن على السور ذلك فعلموا أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الأسر ووثبوا في المدينة وطارت عقولهم وانزعجت أفئدتهم على أولادهم وأهاليهم فبقوا في حيرة فسمع يزيد بن أبي سفيان الضجة فعلم أن المسلمين قاموا في المدينة فكبر وكبرت المسلمون وهلل الموحدون فسمع الدمستق الضجة من المدينة فعلم أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الأسر وهم الذين فعلوا ذلك فوقع الرعب في قلوبهم ونظروا إلى النيران قد اشتعلت في عسكر المسلمين وتأهبوا للحملة عليهم فلم يبق لهم صبر وقد انقطعت قلوبهم من أجل أموالهم وأولادهم الذين في داخل المدينة وقيسارية محاصرة وليس لهم مدد من ولد الملك فولوا الأدبار واتبع المسلمون آثارهم وملكوا خيامهم وما كان فيها فلما أصبح الصباح فتح يوقنا باب المدينة ودخل يزيد بن أبي سفيان ومن معه من المسلمين واحتووا على أموال الروم ونادى من كان على السور الغوث فأمنهم المسلمون ونزلوا بأجمعهم فقال لهم يزيد: إن الله عز وجل قد فتح لنا مدينتكم عنوة وأنتم الآن لنا عبيد فما شئنا حكمنا فيكم ولكن نحن إذا عاهدنا وفينا إذا قلنا صدقنا وقد أعطيناكم الأمان من أنفسنا ولكن عليكم الجزية كلى من لم يدخل في ديننا ومن أسلم منكم فله ما لنا وعليه ما علينا فأجاب القوم إلى ذلك وأسلم أكثر القوم وبلغ الخبر إلى فلسطين بأن صور قد فتحت فعلم أنه لا بقاء له فأخذ الفرصة وانهزم وأخذ خزائنه وأمواله وذخائره وخدمه وأركبهم في المراكب بالليل وأقلع يريد اللحوق إلى قسطنطينية