{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(4)}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الثناء الكامل، والذكر الحسن، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا، خالق السماوات والأرض ومنشئها من غير مثالٍ سبق، قال البيضاوي: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله، قال ابن الجوزي: يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي أصحاب أجنحة، قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها إلى السماء {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء، من ضخامة الأجسام، وتفاوت الأشكال، وتعدد الأجنحة، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}: الملاحةُ في العينين، والحسنُ في الأنف، والحلاوة في الفم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والقوة والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى: أنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه، ولا قانون ينتحيه، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستويةً من غير أوّد، وزينها بالكواكب والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق والأقوات، وبثَّ فيها البحار والأنهار، وفجَّر فيها العيون والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبَّر عن ذلك كله بقوله {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والثانية: اختيار الملائكة ليكونوا رسلاً بينه وبين أنبيائه، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل عليه السلام، ومنهم من لا يعلم حقيقة خلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد كيف لو رأيت إسرافيل! إِنَّ له لاثنيْ عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإِن العرش لعلى كاهله) ولو كشف لنا الحجاب لرأينا العجب العجاب، فسبحان الله ما أعظم خلقه، وما أبدع صنعه!! ثم بيَّن تعالى نفاذ مشيئته، ونفوذ أمره في هذا العالم الذي فطره ومن فيه، وأخضعه لإِرادته وتصرفه فقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} أيْ أيُّ شيء يمنحه الله لعباده ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته، من نعمةٍ، وصحةٍ، وأمنٍ، وعلمٍ، وحكمةٍ، ورزقٍ، وإرسال رسلٍ لهداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحيط بها عدٌّ، فلا يقدر أحدٌ على إِمساكه وحرمان خلق الله منه، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لِما منع {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جل وعلا {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو تعالى الغالب على كل شيء، الحكيم في صنعه، الذي يفعل ما يريد على مقتضى الحكمة والمصلحة، قال المفسرون: والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع، فهو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وفي الحديث "أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجد" ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اشكروا ربكم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم، قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد حفظها من الكفران، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وإِطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: أذكرْ أياديَّ عندك {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} استفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى، لا ما تعبدون من الأصنام {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء، فهو الذي ينزل المطر من السماء، ويخرج النبات من الأرض، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام؟ ولهذا قال تعالى بعده {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ ولا معبود إلا اللهُ الواحد الأحد {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان، إلى عبادة الأوثان؟ والغرض: تذكير الناس بنعم الله، وإِقامة الحجة على المشركين، قال ابن كثير: نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، بوجوب إِفراد العبادة له، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له والمعنى: وإِن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك، فقد كُذّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا، فلك بهم أسوة، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم، وسيجازي كلاً بعمله، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين.