فتح مكة: تحقق الوعد الإلهي
يعتبر صلح الحديبية فتحاً على مستوى الصراع بين قريش ومن معها من أهل مكة، وبين رسول الله (ص) والمسلمين معه، حيث استطاع النبي محمد (ص) أن يفرض على قريش الصلح، الذي يؤكد وصول الصراع إلى مرحلة توازن القِوى في الساحة، بعد أن كانت كفّة الميزان تميل إلى جهة قريش التي كانت تعمل على إسقاط الإسلام كله، بهزيمة المسلمين، فإذا بها ترفض دخول النبي عنوة إلى مكة للطواف بالبيت، خوفاً من سقوط هيبتها عند العرب. وبدأت تفتش عن الحل الذي يحفظ هيبتها، فكان الصلح على أساس أن يرجع المسلمون في عامهم هذا من حيث أتوا، ويأتوا إلى مكة في العام القادم، ليطوفوا بالبيت ثلاثة أيام، على أن تخرج منها قريش في تلك الفترة، مع بنودٍ أخرى، تتجمّد فيها الحرب عشر سنين، الأمر الذي يوحي بأن ميزان القوّة بدأ يميل لصالح المسلمين، خاصة وأن الرسول (ص) كان قد خطط لفتح مكة من موقع القوة، ولكن من دون اللجوء إلى الحرب..
صلح الحديبية: الصلح الفاتح
منع المشركون رسول الله (ص) والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة من دخول مكة حتى في الأشهر الحرم، وبقي الأمر كذلك حتى العام السادس الهجري، حيث خرج الرسول(ص) في ذي القعدة معتمراً لا يريد حرباً... واستنفر العربَ ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب للخروج معه، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله (ص) بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه خرج زائراً لهذا البيت ومعظّماً له... وهذا ما عبر عنه الرسول (ص) بقوله: "يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة"، ثم قال: "مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟".
وتصدى لهذه المهمة رجلٌ من أسلم، فسلك بهم طريقاً وعراً أجرد بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرضٍ سهلةٍ عند منقطع الوادي، دعا رسول الله (ص) الناس أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه، فقالوا ذلك، فقال: والله إنها لَلْحِطّة التي عُرضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها.
فلمَّا اطمأن رسول الله (ص)، أتاه بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في رجالٍ من خزاعة، فكلّموه، وسأَلَوه ما الذي جاء به، فأخبرهم أنه لا يريد حرباً، وإنما جاء زائراً للبيت ومعظّماً لحرمته، ونقلت خزاعة هذا القول إلى قريش، ولكن قريشاً أقسمت بأن لا يدخلها(ص) عنوة، مخافة أن يتحدث بذلك العرب.
كانت خزاعة بمسلمها ومشركها متحالفة مع الرسول(ص) واستمرت في مسعاها بين المسلمين وقريش ولكن قريشاً بدل أن تتعاطى بإيجابية مع الرسل تجرأت على الرسول(ص)، وحاولت قتله ولكن الأحابيش منعتهم من ذلك، فخلوا سبيله وكانت قريش قد بعثت ما بين الأربعين والخمسين رجلاً، وأمرتهم أن يُطيفوا بعسكر رسول الله (ص) ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، ولكنهم وقعوا في أسر المسلمين فعفا عنهم الرسول(ص) وخلَّى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله (ص) بالحجارة والنبل.
واستمرت بالرغم من ذلك مساعي الرسول(ص) في الدخول سلماً إلى مكة، فأرسل عثمان بن عفان إلى مكة فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله (ص) والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل، فقال الرسول(ص) حين بلغه مقتل عثمان: "لا نبرح حتى نناجز القوم".
فدعا رسول الله (ص) الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولم يتخلّف عنه أحدٌ من المسلمين، إلا الجدُّ بن قيس، أخو بني سلمة، وفي هذه الأثناء أتاه جابر بن عبد الله ليخبره أن ما شاع من مقتل "عثمان باطل"...
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي، إلى رسول الله (ص)، في طلب الصلح وجرى التفاوض بين الطرفين أن لا يدخل مكة عنوة وأن يرجع الرسول(ص) عن مكة عامة هذا.
وجاء في نص كتاب الصلح: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليه، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردّوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه...».
ثم انصرف رسول الله (ص) من وجهه ذلك قافلاً إلى المدينة، حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} فقال رجل: يا رسول الله، أَوَفَتحٌ هو؟ قال: والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح».
الفتح المبين
وقد عبَّر القرآن عن هذا الصلح بالفتح المبين في قوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} وذلك من خلال هذه الثغرة التي فتحها الله في قلوب المشركين، ليقبلوا بالدخول مع النبي (ص) والمسلمين في صلحٍ متوازنٍ يمنح المسلمين الراحة القتالية ليتفرّغوا للإعداد والتخطيط لفتح مكة، عندما تسنح الفرصة لذلك. وهكذا انفتح للإسلام دربٌ كبيرٌ لصنع القوّة، لأن توقيع أيّة معاهدةٍ بين فريقين، يمثل اعترافاً بتعادل قوتهما، وهذا ما عكسه صلح الحديبية، الأمر الذي يدل على اعتراف قريش بالإسلام كقوّة جديدة، ما من شأنه أن يمثل الخطوة الأولى للنصر.
منها: ـ ما ذكره في مجمع البيان ـ أن المراد به فتح مكة، وعده الله ذلك عام الحديبية عند انكفائه.
علاقة الفتح بغفران الذنب
وبالرّغم من أهمية هذا الفتح وإطلاق صفة المبين عليه، نجد أن الله سبحانه وتعالى قد جعل علاقةً وثيقةً بين الفتح والذنب، وذلك قوله تعالى:{لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. ويندرج في هذه الفقرة سؤالان:
الأول: ما هي علاقة الفتح بغفران الذنب، ليكون الأول تعليلاً للثاني بلحاظ ظهور «اللام» في التعليل؟
الثاني: ما معنى غفران ذنب النبي، وهو المعصوم في أقواله وأفعاله، ثم، ما هو المعنى لغفران الذنب قبل حدوثه؟
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة، منها: أن الذنب ليس ذنب النبي مع الله، ولكنه ذنبه مع أهل مكة، في ما يعتقدون من أن انطلاقته في الدعوة التي أدت إلى الصراع العسكري وغير العسكري، يمثّل الذنب الكبير، باعتبارها الحركة التي قتلت الكثير من رجالهم، ودمّرت الكثير من هيبتهم. وبذلك كان الفتح، الذي بدأ بصلح الحديبية معنوياً، وانتهى بفتح مكة فعلياً، ووقف بعده النبي ليعفو عن المشركين بعد السيطرة عليهم؛ ليكون ذلك أساساً لغفرانهم لما سلف، ولما يأتي من ذنوبه بحقهم، لأن عظمة عفو النبي عنهم في ظروفه الموضوعية، تلغي كل مواقع الذنب في ماضيه ومستقبله، وبذلك تكون كلمة الفتح منسجمة مع التعليل بالمغفرة.
أما نسبة المغفرة إلى الله، فلأنه كان السبب في ذلك كله، على نحو المجاز.
ومنها: أن المراد ذنب أمته، باعتبار أنه يمثل قيادة الأمة التي تتحمل معنوياً مسؤولية أعمال أتباعها.
ومنها: أن المراد ذنب أبويه آدم وحواء ببركته.
ومنها: أن المسألة قائمة على الفرضية الطبيعية، باعتبار أنه بشر يمكن أن يخطى في المستقبل، كما كان ذلك ممكناً في الماضي، ولهذا فإن التعبير يعالج المسألة على أساس أنه لو كان الأمر كذلك لغفر الله له، لأن مثل هذا الفتح المبين الذي قام به، يمثّل العمل الأفضل الذي تسقط أمامه كل الذنوب، بحيث يكون هو الحسنة التي لا تضرّ معها سيّئة.
وهناك وجوهٌ أخرى يرتكز بعضها على غفران ذنوب شيعة علي(ع) ما تقدم منها وما تأخّر.
ويروي القائلون بهذا روايات عن الإمام الصادق (ع)، ولكننا لا نعتقد صحة هذه الروايات، لأنها لا تنسجم مع الأسس الفكرية الإسلامية، فإنه لا معنى للقول بما جاء في بعض هذه الروايات: «ما كان له ذنب، ولا همّ بذنب، ولكنّ الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له»، أو أن «الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي (ع) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر»، لأنه لا معنى لتحميله تلك الذنوب، كما لا معنى لاعتبار الفتح أساساً لذلك، في الوقت الذي لم يكن فيه للشيعة أيّ وجود واقعي في المجتمع الإسلامي، وكيف يمكن للقرآن أن يتحدث عن نتيجةٍ للفتح لا تتصل به؟!
ولكن عند التدقيق في معالجة المسألة ودراسة التعبير الذي جاء في الآية، نلاحظ أن كلَّ هذه التفاسير كانت تحاول الهروب من المعنى الظاهر فيها، يعني أنّ للنبي ذنباً متقدماً ومتأخراً، وأن الله جعل الفتح سبباً في مغفرته، لأن هذا المعنى لا يتناسب مع عصمة النبي، أو كماله، أو شخصيته النبوية التي تمثل النموذج القدوة، فقد تكون بشريته محكومة لنقاط الضعف في طبيعتها، ولكن رسالته، التي انطلقت من الوحي، لا بد من أن تمنح إنسانيته نقاط القوّة، ولا بد من أن تكون قد درست مؤهلاته التي عاشها مدة أربعين سنة قبل الرسالة، ليبني على أساسها شخصيته بالمستوى الذي لم يستطع الناس الذين عاشوا معه من أهله وأصحابه، أن يسجّلوا عليه أيّة نقطةٍ سوداء في ما يروونه عن ماضيه الشخصي، ولهذا فإن مسألة الذنب تتنافى مع هذا الماضي الطاهر المشرق الذي زاده حاضر الرسالة حركيّةً وقوّةً وإشراقاً وصفاءً...
وعلى ضوء ذلك، فلا بد من تجاوز هذا المعنى إلى ما يختزنه من إيحاءاتٍ تتناسب مع صفاء العمق الروحي للشخصية النبوية، ولعل الأقرب إلى الجوّ أن نستوحي من المغفرة معنى الرضوان والمحبة والرحمة، باعتبار أنها تمثل نتائج المغفرة، ليكون المعنى، هو أن الله يمنحك رضوانه ومحبته، في ما يوحي به من معنى إيجابي يستلزم انتفاء المعنى السلبي، باعتبار أن الفتح، في ما يمثِّله، هو الانطلاقة التي تفتح للإسلام باب الحياة الواسع الذي يدلّ الناس على الطريق إلى الله. وقد جاهد النبي (ص) أقسى الجهاد حتى وصل إلى هذه النتيجة بتوفيق الله ورعايته، ومن هنا كان ذلك سبباً في محبة الله له التي تشمل أوّل الجهاد قبل الفتح وآخره بعد الفتح.
ويتابع الوحي حديثه عمّا خص به الرسول(ص) من نعم تتجلى في إتمام النعم عليه، وجعله على الصراط السويّ، ونصرته وإعزازه، وذلك في قوله:{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بوصول النبي إلى الأرض التي بدأت حياته فيها طفلاً وشاباً، وانطلق بالدعوة فيها كهلاً، وخرج منها تحت تأثير القهر والاضطهاد، فإذا به، بعد تلك المعاناة، يرجع إليها فاتحاً بالرسالة المنفتحة على الواقع كله، حيث يبدأ عهدٌ جديدٌ حافلٌ بالازدهار، ليكون الدين كله لله وحده، وليكون نصره نهاية طبيعية لجهاده تتم به النعمة عليه، {وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً}، وهو الصراط الذي يبدأ بتوحيد الله، ويمتد بشريعته التي تجعل الإنسان مسؤولاً في كل أقواله وأفعاله، ولينتهي بين يدي الله في اليوم الآخر إبان موقف الحساب. وهذا هو الهدف الذي تحركت المسيرة إليه، وهذا ما هدى الله النبي إليه في وحيه ليعيش الهداية في حركته مع الناس الذين جعلهم الله حركة مسؤوليته، وهكذا ينصر الله النبي (ص) من خلال إمداده بالقوة {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} يؤكد القوّة التي تنحني أمامها كل مواقع التحدي الموجهة ضده، حيث يبسط الإسلام سيطرته ليكون هو القوّة الوحيدة في الجزيرة، التي تخضع لها القوة كلها هناك.
وهكذا، كان الفتح المعنوي في الحديبية، ثم الواقعي في مكة، مفتاحاً للرضوان وللنعمة التامة، وللهداية الكاملة، وللنصر العزيز الذي يمتدُّ بالإسلام إلى الحياة كلها.
المزيد هنا
http://arabic.bayynat.org.lb/siranabawiya/makka.htm