{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(34)وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(35)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(36)وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءامن وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ(37)وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(38)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39)}.
سبب النزول:
نزول الآية (34):
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ..}: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رَزِين قال: "كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دُلّني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل تصديق ما قلت".
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي لم نبعث في أهل قريةٍ رسولاً من الرسل ينذرهم عذابنا {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي إِلا قال أهل الغنى والتنعم في الدنيا { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي لا نؤمن برسالتكم ولا نصدقكم بما جئتم به، قال قتادة: المترفون هم جبابرتهم وقادتهم ورؤساؤهم في الشر، وهم الذين يبادرون إِلى تكذيب الأنبياء، والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} أي وقال مشركو مكة: نحن أكثر أموالاً وأولاداً من هؤلاء الضعفاء المؤمنين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي إِن الله لا يعذبنا لأنه راضٍ عنا، ولو لم يكن راضياً عنا لما بسط لنا في الرزق، قاسوا أمر الدنيا على الآخرة، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة، قال أبو حيان: نصَّ تعالى على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل، لما شُغلوا به من زخرف الدنيا، وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة، بخلاف الفقراء فإِنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهُم أقبل للخير ولذلك كانوا أكثر أتباع الأنبياء {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي قل لهم يا محمد: إِن توسعة الرزق وتضييقه ليس دليلاً على رضى الله، فقد يوسّع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع ابتلاءً وامتحاناً، فلا تظنوا أن كثرة الأموال والأولاد دليل المحبة والسعادة، بل هي تابعة للحكمة والمشيئة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون الحقيقة، فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة، وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا أكَّد ذلك بقوله {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } أي ليست أموالكم ولا أولادكم التي تفتخرون بها وتكاثرون هي التي تقربكم من الله قربى، وإِنما يقرّب الإِيمان والعمل الصالح، قال الطبري: الزلفى: القربى، ولا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، ولهذا قال تعالى بعده {إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي إِلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويعلّم ولده الخير ويربيه على الصلاح فهذا الذي يقرّبه من الله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} أي تُضاعف حسناتهم، الحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إِلى سبعمائة ضعف {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أي وهم في منازل الجنة العالية آمنون من كل عذاب ومكروه، ولما ذكر جزاء المؤمنين، ذكر عقاب الكافرين، ليظهر التباين بين الجزاءين فقال {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي يسعون في الصدِّ عن سبيل الله، واتباع آياته ورسله، معاندين لنا يظنون أنهم يفوتوننا بأنفسهم {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي فهم مقيمون في العذاب، محضرون يوم القيامة للحساب {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي قل يا محمد: إِن ربي يوسّع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويقتَر على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال التي رزقكم الله إِيَّاها، قال في التسهيل: كررت الآية لاختلاف القصد، فإِنَّ القصد بالأول الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإِنفاق {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي وما أنفقتم في سبيل الله قليلاً أو كثيراً فإِن الله تعالى يعوّضه عليكم إِما عاجلاً أو آجلاً { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى خير المعطين، فإِنَّ عطاء غيره بحساب، وعطاؤه تعالى بغير حساب، قال المفسرون: لما بيَّن أنَّ الإِيمان والعمل الصالح هو الذي يقرب العبد إِلى ربه، ويكون مؤدياً إِلى مضاعفة حسناته، بيَّن أن نعيم الآخرة لا ينافي سعة الرزق في الدنيا، بل الصالحون قد يبسط لهم الرزق في الدنيا، مع ما لهم في الآخرة من الجزاء الأوفى والمثوبة الحسنى بمقتضى الوعد الإِلهي.