{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6)إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته، فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبرهان الساطع {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس، قال القرطبي: وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه إياه حتى يُذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى : يُغشي الليلَ النهار يطلبه حثيثاً {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي دلَّلهما لمصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان، قال الصاوي: صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه "ألا" للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال: تنبهوا يا عبادي فإِني أنا الغالب على أمري، الستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقهر، وجميع صفات الألوهية {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي ثم خلق من آدم حواء ليحصل التجانس والتناسل، قال الطبري: المعنى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم {ثم خلق منها زوجها} يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولةوهي - الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى، قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} هي البطن، والرحم، والمشيمة وهو -الكيس الذي يغلّفُ الجنين- {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّ ءابائكم الأولين {لَهُ الْمُلْكُ} أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ أي فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإِحسانه فقال {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي إن تكفروا أبها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر، قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإِن كان واقعاً بمشيئته وقضائه {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي وإِن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم، قال أبو السعود: عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال: "ولا يرضى لعباده الكفر" وقال هنا: "يرضه لكم" لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفس أخرى، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع.