{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(8)أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)}.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان، قال الإِمام فخر الدين الرازي: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصل كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهم المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشقياء وسعداء كقوله تعالى {فمنهم شقيٌ وسعيدٌ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام، قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلاَّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله بذلك في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله، قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جل وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه {وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى} أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً دون من سواه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلى الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري، قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلكم الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه، قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً .. ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات {وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأنثى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ، وقال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله - جلَّ اسمُه - في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم - عزَّ وجلَّ - بخلاف صفات المخلوق، وإِذْ صفاتُهم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإِلهية {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إِذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر.