{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21)تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ(22)ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ(23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(25)وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)}
سبب النزول:
نزول الآية (23):
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ..}: قال قتادة: قال المشركون: لعلّ محمداً فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودة أقربائه.
ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعليه أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم، قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن من عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه، وقال ابن جزي: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}؟ الاستفهام للتقرير والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آلهة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإِسنادُ الشرع إلى الأوثان وهي جمادات إسنادٌ مجازي، من إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للمشاكلة والتهكم {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم عذابٌ موجع مؤلم {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي ترى أيها المخاطب الكافرين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} أي والمؤمنون الصالحون في رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها {لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم، قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء، قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جل وعلا إذا قال "كبير" فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي، قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤدوني بما بيني وبينكم من القرابة، قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وتودُّوني في نفسي لقرابتي منكم {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب على الله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل الصدق والأمانة {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قلبك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك، قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} أي يزيل الله الباطل بالكلية {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم، وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعلمه الله وطبع على قلبك {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هو جل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإخلاص نيّة {وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلم جميع ما تصنعون من خيرٍ أو شر {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين، قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وإِذا كالوهم} أي كالوا لهم {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم.