{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40)وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41)إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42)وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(43)}.
سبب النزول:
نزول الآية (37):
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا..} قيل: نزلت في عمر حين شُتم بمكة، وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شُتم فحلُم.
نزول الآية (38):
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا..}: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.
نزول الآيات (41 - 43):
ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضاً في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين {وَالْفَوَاحِشَ} قال ابن عباس: يعني الزنى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إِذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا، قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي "من استُغضب ولم يغضب فهو حمار" وقال الشاعر: "وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل" {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة، قال البيضاوي: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي وينفقون مما أعطاهم الله بالإِحسان إلى خلق الله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون لظلم المعتدي، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلّوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق، قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل،وهذا لا ينافيوصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل، قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث (وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا زاده عزاً) {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي إنه جل وعلا يبغض البادئين بالظلم، والمعتدين في الانتقام {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً، بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي أمر الله بها وأكد عليها، قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمود العاقبة.