من أسرار القرآن
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
ـ 12ـ فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*
بقلم الدكتور:زغـلول النجـار
والمدلول اللغوي لهاتين الآيتين الكريمتين: أقسم قسما مؤكدا بالخنس الجوار الكنس, والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن هو: ماهي هذه الخنس الجوار الكنس التي أقسم بها ربنا( تبارك وتعالي) هذا القسم المؤكد, وهو( تعالي) غني عن القسم؟
وقبل الاجابة علي هذا التساؤل لابد لنا:
أولا: من التأكيد علي حقيقة قرآنية مهمة مؤداها أن الآية أو الآيات القرآنية التي تتنزل بصيغة القسم تأتي بمثل هذه الصياغة المؤكدة من قبيل تنبيهنا إلي عظمة الأمر المقسوم به, وإلي أهميته في انتظام حركة الكون, أو في استقامة حركة الحياة أو فيهما معا, وذلك لأن الله( تعالي) غني عن القسم لعباده.
ثانيا: أن القسم في القرآن الكريم بعدد من الأمور المتتابعة لا يستلزم بالضرورة ترابطها, كما هو وارد في سورة التكوير, وفي العديد غيرها من سور القرآن الكريم من مثل سور الذاريات, الطور, القيامة, الانشقاق, البروج, الفجر, البلد, الشمس, والعاديات, ومن هنا كانت ضرورة التنبيه علي عدم لزوم الربط بين القسم الأول في سورة التكوير:
فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس
والقسم الذي يليه في الآيتين التاليتين مباشرة حيث يقول الحق( تبارك وتعالي):
والليل إذا عسعس* والصبح إذا تنفس*
( التكوير:18,17)
وهو ما فعله غالبية المفسرين للأسف الشديد, فانصرفوا عن الفهم الصحيح لمدلول هاتين الآيتين الكريمتين.
ثالثا: تشهد الأمور الكونية المقسوم بها في القرآن الكريم للخالق( سبحانه وتعالي) بطلاقة القدرة, وكمال الصنعة, وتمام الحكمة, وشمول العلم, ومن هنا فلابد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة الانسانية بالكون ومكوناته, وبالسنن الإلهية الحاكمة له حتي يتحقق وصف المصطفي( صلي الله عليه وسلم) للقرآن الكريم بأنه: لا تنتهي عجائبه, ولا يخلق علي كثرة الرد, وحتي يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب الإعجاز في كتاب الله وهو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة يري فيها أهل كل عصر معني معينا, وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وليس هذا لغير كلام الله.
رابعا: بعد القسم بكل من الخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس يأتي جواب القسم:
إنه لقول رسول كريم( التكوير:19)
ومعني جواب القسم أن هذا القرآن الكريم ـ ومنه الآيات الواردة في مطلع سورة التكوير واصفة لأهوال القيامة, وما سوف يصاحبها من الأحداث والانقلابات الكونية التي تفضي إلي إفناء الخلق, وتدمير الكون, ثم إعادة الخلق من جديد ـ هو كلام الله الخالق الموحي به إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بواسطة ملك من ملائكة السماء المقربين, عزيز علي الله( تعالي), وهذا الملك المبلغ عن الله الخالق هو جبريل الأمين( عليه السلام), ونسبة القول إليه هو باعتبار قيامه بالتبليغ إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم).
خامسا: إن هذا القسم القرآني العظيم جاء في سياق التأكيد علي حقيقة الوحي الإلهي الخاتم الذي نزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه أجمعين وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين), والذي جاء للناس كافة لينقلهم من ظلمات الكفر والشرك والضلال إلي نور التوحيد الخالص لله الخالق بغير شريك ولا شبيه ولا منازع, ومن فوضي وحشية الإنسان إلي ضوابط الايمان وارتقائها بكل ملكات الإنسان إلي مقام التكريم الذي كرمه به الله, ومن جور الأديان إلي عدل الرحمن, كما جاء هذا القسم المؤكد بشيء من صفات الملك الذي حمل هذا الوحي إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وعلي شيء من صفات هذا النبي الخاتم الذي تلقي الوحي من ربه, وحمله بأمانة إلي قومه, رغم معاندتهم له, وتشككهم فيه, وادعائهم الكاذب عليه( صلي الله عليه وسلم) تارة بالجنون( وهو المشهود له منهم برجاحة العقل وعظيم الخلق), وأخري بأن شيطانا يتنزل عليه بما يقول( وهو المعروف بينهم بالصادق الأمين), وذلك انطلاقا من خيالهم المريض الذي صور لهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالنظم الفريد, وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وقد تلقي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) كل ذلك الكفر والجحود والاضطهاد بصبر وجلد واحتساب حتي كتب الله تعالي له الغلبة والنصر فأدي الأمانة, وبلغ الرسالة, ونصح البشرية, وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين.
وتختتم سورة التكوير بالتأكيد علي أن القرآن الكريم هو ذكر للعالمين وأن جحود بعض الناس له, وصدهم عنه, وإيمان البعض الآخر به وتمسكهم بهديه هي قضية شاء الله تعالي أن يتركها لاختيار الناس وفقا لارادة كل منهم, مع الايمان بأن هذه الإرادة الانسانية لا تخرج عن مشيئة الله الخالق الذي فطر الناس علي حب الايمان به, ومن عليهم بتنزل هدايته علي فترة من الرسل الذين تكاملت رسالاتهم في هذا الوحي الخاتم الذي نزل به جبريل الأمين علي قلب النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وأنه علي الرغم من كل ذلك فإن أحدا من الناس ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة ـ لا يقدر علي تحقيق الاستقامة علي منهج الله تعالي إلا بتوفيق من الله. وهذه دعوة صريحة إلي الناس كافة ليطلبوا الهداية من رب العالمين في كل وقت وفي كل حين.
والقسم بالأشياء الواردة بالسورة هو للتأكيد علي أهميتها لاستقامة أمور الكون وانتظام الحياة فيه, وعلي عظيم دلالاتها علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعتها وصرفت أحوالها وحركاتها بهذه الدقة المبهرة والاحكام العظيم.
الخنس الجوار الكنس في اللغة العربية
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس( المتوفي سنة395 هـ), تحقيق عبدالسلام هارون( الجزء الخامس, الطبعة الثانية1972 م, ص141, ص223) وفي غيره من معاجم اللغة تعريف لغوي للفظي الخنس والكنس يحسن الاستهداء به في فهم مدلول الخنس الجوار الكنس كما جاءا في آيتي سورة التكوير علي النحو التالي:
أولا: الخنس:
خنس: الخاء والنون والسين أصل واحد يدل علي استخفاء وتستر, قالوا: الخنس الذهاب في خفيه, يقال خنست عنه, وأخنست عنه حقه.
والخنس: النجوم تخنس في المغيب, وقال قوم: سميت بذلك لأنها تخفي نهارا وتطلع ليلا, والخناس في صفة الشيطان, لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالي, ومن هذا الباب الخنس في الأنف انحطاط القصبة, والبقر كلها خنس.
ومعني ذلك أن الخنس جمع خانس أي مختف عن البصر, والفعل خنس بمعني استخفي وتستر, يقال خنس الظبي إذا اختفي وتستر عن أعين المراقبين.
والخنوس يأتي أيضا بمعني التأخر, كما يأتي بمعني الانقباض والاستخفاء. وخنس بفلان وتخنس به أي غاب به, وأخنسه أي خلفه ومضي عنه.
ثانيا: الجوار:
أي الجارية.( في أفلاكها) وهي جمع جارية, من الجري وهو المر السريع.
ثالثا: الكنس:
( كنس) الكاف والنون والسين تشكل أصلين صحيحين, أحدهما يدل علي سفر شئ عن وجه شئ وهو كشفه والأصل الآخر يدل علي استخفاء, فالأول كنس البيت, وهو سفر التراب عن وجه أرضه, والمكنسه آلة الكنس, والكناسة مايكنس.
والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي, والكانس: الظبي يدخل كناسه, والكنس: الكواكب تكنس في بروجها كما تدخل الظباء في كناسها, قال أبو عبيدة: تكنس في المغيب.
وقيل الكنس جمع كانس( أي قائم بالكنس) أو مختف من كنس الظبي أي دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر, وسمي كذلك لأنه يكنس الرمل حتي يصل إليه. وعندي أن الكنس هي صيغة منتهي الجموع للفظة كانس أي قائم بعملية الكنس, وجمعها كانسون, أو للفظة كناس وجمعها كناسون, والكانس والكناس هو الذي يقوم بعملية الكنس( أي سفر شيء عن وجه شيء آخر, وإزالته), لأنه لا يعقل أن يكون المعني المقصود في الآية الكريمة للفظة الكنس هي المنزوية المختفية وقد استوفي هذا المعني باللفظ الخنس, ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعني دفع بجمهور المفسرين إلي القول بأن من معاني فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*: أقسم قسما مؤكدا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معني الخنس, والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها( أي مغاراتها) وهو معني الجوار الكنس, قال القرطبي: هي النجوم تخنس بالنهار, وتظهر بالليل, وتكنس وقت غروبها أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار وهو الكناس, وقال مخلوف: أقسم الله تعالي بالنجوم التي تخنس بالنهار أي يغيب ضوؤها فيه عن الأبصار مع كونها فوق الأفق, وتظهر بالليل, وتكنس أي تستتر وقت غروبها أي نزولها تحت الأفق كما تكنس الظباء في كنسها.. وقال بعض المتأخرين من المفسرين: هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية, وتجري في أفلاكها وتختفي.
ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أني أري الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين: فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*. ينطبق انطباقا كاملا مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود
(Black Holes).
وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم), في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, هي شهادة صدق علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته, وعلي أن سيدنا محمدا بن عبدالله كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, وأنه( صلي الله عليه وسلم) ما كان ينطق عن الهوي, إن هو إلا وحي يوحي.
الخنس الجوار الكنس في نظر بعض الفلكيين المسلمين المعاصرين
يري بعض الفلكيين المسلمين المعاصرين في الوصف القرآني: الخنس الجواري الكنس أنه وصف للمذنبات
(Comets),
وهي أجرام سماوية ضئيلة الكتلة( لا تكاد تصل كتلتها إلي واحد من المليون من كتلة الأرض) ولكنها مستطيلة بذنبها إلي ما قد يصل إلي150 مليون كيلو متر مما يجعلها أكبر أجرام المجموعة الشمسية, حيث تتحرك في مدارات حول الشمس, بيضاوية تقع الشمس في أحد طرفيها ونحن نراها كلما اقتربت من الشمس, وهذه المدارات لا تتبع قوانين الجاذبية بدقة, وتتميز بشئ من اللامركزية, وبميل أكبر علي مستوي مدار الأرض, مما يجعل المذنبات تظهر وتختفي بصورة دورية علي فترات تطول وتقصر. والمذنبات تتكون أساسا من خليط من الثلج والغبار, وللمذنب رأس وذنب, وللرأس نواة يبلغ قطرها عدة كيلو مترات قليلة عبارة عن كرة من الثلج والغبار تحيط بها هالة من الغازات والغبار, وتحيط بالهالة سحابة من غاز الإيدروجين قد يصل قطرها إلي مليون كيلو متر.
والغبار المكون للمذنبات شبيه في تركيبه الكيميائي والمعدني بتركيب بعض النيازك, وأما الثلج فهو خليط من ثلج كل من الماء, وثاني أكسيد الكربون, والأمونيا, والميثين.
وبالتفاعل مع كل من أشعة الشمس والرياح الشمسية يندفع من رأس المذنب ذيل من الغازات والأبخرة والغبار قد يصل طوله إلي150 مليون كيلو متر, ومن هنا كانت التسمية بالمذنبات, وللكثير من المذنبات ذيلان أحدهما ترابي ويبدو أصفر اللون في أشعة الشمس, والآخر مكون من غازات متأينة في حالة البلازما( أليكترونات وأيونات) ويبدو أزرق اللون في أشعة الشمس, والذنب الغازي يندفع بفعل الرياح الشمسية في خط مستقيم خلف رأس المذنب بينما ينعقف منثني الذنب الترابي بلطف خلف رأس المذنب إلي أعلي, وهذان الذنبان قد يتواجدان معا أو يتواجد أحدهما في المذنب الواحد, في عكس اتجاه أشعة الشمس بانحراف قليل نظرا لدوران نواة رأس المذنب( التي تتراوح كتلتها بين مائة مليون, وعشرة مليون مليون طن) وللمذنب مجال مغناطيسي ثابت علي طوله.
ووجه الشبه الذي استند إليه هذا النفر من الفلكيين المسلمين المعاصرين بين المذنبات والوصف القرآني الخنس الجواري الكنس هو أن المذنب يقضي فترة تتراوح بين عدة أيام وعدة شهور مجاورا للشمس في زيارة خاطفة, فيظهر لنا بوضوح وجلاء ولكنه يقضي معظم فترة دورانه بعيدا عن الشمس فيختفي عنا تماما ويستتر, فإذا ما اقترب من الشمس ظهر لنا وبان, ولكن سرعان ما يقفل راجعا حتي يختفي تماما عن الأنظار, واعتبروا ذلك هو الخنوس, ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل, ولا يعني الظهور ثم الاختفاء.
(The Missing Mass in the universe)
التتمة هنا :
http://www.qalqilia.edu.ps/bhq.htmمنقول للفائدة