الهجرة الثانية إلى الحبشة
لما عجزت قريش عن مقاومة رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، بالحجة والبراهين ، لجأت إلى تصعيد العنف والقوة ضد المسلمين وخاصة منهم هؤلاء الذين عادوا إلى مكة قادمين من الحبشة بعد أن سمعوا بإسلام حمزة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، كما أنهم سمعوا أن أهل مكة قد أسلموا ، فعادوا فرحين بإسلام قومهم ، إلا أنهم عرفوا باطل ما سمعوا عندما وصلوا إلى مشارف مكة المكرمة . وكان النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم قد جلس مع المشركين فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه
والنجم إذا هوى (1) ، ما ضل صاحبكم (2) وما غوى ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلى وحي يوحي علمه شديد القوى ذو مرة (3) فاستوى (4) وهو بالأفق الأعلى 5
وتابع رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم فأكملها فسجد وسجد معه كل من كان هناك من المسلمين والمشركين ، فظن بعضهم أن المشركين قد أسلموا ، وعندما رأى رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ما حل بالمسلمين من أصحابه من سوء العذاب ، أمرهم أن يهاجروا إلى الحبشة . فقال له عثمان بن عفان ، رضي الله عنه وكان من العابدين : يا رسول الله هاجرنا المرة الأولى ، وهذه المرة الثانية إلى النجاشي ، ولست معنا . فأجابه رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : " أنتم مهاجرون إلى الله وإلي فلكم هاتان الهجرتان جميعا " فقال عثمان : فحسبنا يا رسول الله
رسولا قريش إلى النجاشي
غضبت قريش لما رأت أن أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم قد هاجروا وتركوا مكة إلى الحبشة حيث وجدوا الأمن والاطمئنان وأصابوا الدار والقرار ، فاجتمع رؤوس الكفر والشرك فيها وقرروا أن يبعثوا رجلين من قريش قويين جلدين إلى النجاشي ملك الحبشة ، الذي كان يدين بالنصرانية ، ليحاولوا إعادة المسلمين إلى مكة ويخرجوهم من دارهم التي أطمأنوا بها وسكنوا إليها فأرسلوا عبد الله بن أبي ربيعة {6} وعمر بن العاص بن وائل ، وجمعوا لهما هدايا ثمينة للنجاشي ، ثم بعثوهما إليه . وعن رسولي قريش هذين ن تروي لنا المهاجرة أم سلمة بنت أبي أمية التي تزوجها رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، قصتهما فتقول : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ن ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين منهم جلدين ، وأن يهدوا النجاشي هدايا ثمينة من متاع مكة فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق من بطارقة النجاشي هديته ن قبل أن تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ، ثم اسألاه أن يسلم المسلمين إليكما قبل أن يكلمهم . ففعل الرسولان مثل ما أمرا وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد لجأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم لنردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم ، فاشيروا عليه أن يسلمهم إلينا . فقالوا لهما : نعم ثم أن الرسولين قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ، ثم كلماه وقالا له : أيها الملك ، إنه قد لجأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لنردهم إليهم . فقالت بطارقة الملك : صدقا أيها الملك العظيم ، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم . فغضب النجاشي وقال : لا والله لا أسلمهم إليهما ، فقد جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم . ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما جاءهم رسوله ، اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للملك إذا جئتموه ؟ قالوا: نقول ما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وليكن من شأننا ما يكون ، فلما وقفوا أمام النجاشي ، سألهم فقال ك ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ، ولا في دين أحد ؟ فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : أيها الملك كنا في الجاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي بالفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونترك ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم {7} ، وحسن الجوار ن والكف عن المحارم ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله ، لكن قومنا عذبونا ، وحاولوا ردنا عن ديننا ، إلى عبادة الأوثان ، فلما اشتد عذابهم لنا ولم يبق لنا حيلة في أمرنا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك . فقال النجاشي : هل معك شيء مما جاءكم به رسولكم ؟؟ قال جعفر بن أبي طالب : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه علي . فقرأ جعفر عليه شيئا من سورة مريم . والنجاشي يصغي حتى أسبلت عيناه بالدموع وابتلت لحيته . ثم قال لهم : إن هذا والذي جاء به عيسى لمن كلام الله تعالى ، انطلقوا فلا والله لا أسلمكم لأحد أبدا . ثم حاول رسولا قريش أن يوغروا صدر النجاشي ، بما يقوله المسلمون عن عيسى عليه الصلاة والسلام ، من أنه عبد من عباد الله ، أرسله هاديا للناس ، فلم يلتفت إليهما النجاشي وخرجا من عنده مطرودين . هذا وبعد الهجرة إلى الحبشة وعودة من عادوا بدأت قريش خطة جديدة في مقاومة النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي ثبت مع أصحابه وقاوم إغراءات قريش وأساليبها الوحشية ، إلى أن أعلنت قريش عن فرض المقاطعة التامة وكتبت في ذلك صحيفة علقتها على أستار الكعبة