أيّنا سمع هذا الاسم، وأيّنا سمع به من قبل..؟
أغلب الظن أن أكثنا، ان لم نكن جميعا، لم نسمع به قط.. وكأني بكم اذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون عامر هذا..؟؟
أجل سنعلم من هذا السعيد..!!
انه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وان لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة.
انه واحد من كبار الأتقياء الأخفياء..!!
ولعل من نافلة القول وتكراره، أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.
أسلم سعيد قبيل فتح خيبر، ومنذ عانق الاسلام وبايع الرسول، أعطاهما كل حياته، ووجوده ومصيره.
فالطاعة، والزهد، والسمو.. والاخبات، والورع، والترفع.
كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا الانسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..
وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها، علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..
فحين تقع العين على سعيد في الزحام، لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..
ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة الانمية.. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه، ولا في شكله الاخرجي، ما يميزه عن فقراء المسلمين بشيء.!!
فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته، فلن نبصر شيئا، فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.
انها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله.
أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف..؟ انه شيء يشبه هذا..
**
عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام، تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.
وأسلوب عمر في اختيار ولاته ومعاونيه، أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر، والدقة، والأناة.. ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه وال في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا.. وصاحب الخطأ ثانيا..
ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة، ومحيطة،وبصيرة، أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..
والشام يومئذ حاضرة كبيرة، والحياة فيها قبل دخول الاسلام بقرون، تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز هام لتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا، ولهذا درء اغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر الا قديس تفر كل شياطين الاغراء أمام عزوفه.. والا زاهد، عابد، قانت، أواب..
وصاح عمر: قد وجدته، اليّ بسعيد بن عامر..!!
وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..
ولكن سعيجا يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..
فيصيح به عمر:
" والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!
واقتنع سعيد في لحظة، فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الاقناع.
أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم، ثم ينركوه وحيدا..واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر، فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟
خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين جديدين، وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة.. وزوّده عمر بقدر طيّب من المال.
ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت هليه بأن يشتري ما يلزمهما من لباس لائق، ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..
وقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلنعط المال م يتجر لنا فيه وينمّيه..
قالت: وان خسرت تجارته..؟
قال سعيد: سأجعل ضمانا عليه..!!
قالت: فنعم اذن..
وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات غعيشه المتقشف، ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..
ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الأرباح..
ويجيبها سعيد: انها تجارة موفقة.. وان الرباح تنمو وتزيد.
وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب، فألحت عليه أن يصارحها الحديث، فقا لها: لقد تصدق بماله جكيعه من ذلك اليوم البعيد.
فبكت زوجة سعيد، وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد، والا المال بقي..
ونظر اليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.
وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا، ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال:
" لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"..!!
واذ خشي أن تدل عليه بجمالها، وكأنه يوجه الحديث الى نفسه معها:
" تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان، ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك من أجلهن، أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"..!!
وأنهى حديثه كما بدأه، هادئا مبتسما راضيا..
وسكنت زوجته، وأدركت أنه لا شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد، وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه..!!
**