--------------------------------------------------------------------------------
أيادٍ كثيرة .. وفرشاة واحدة
عندما نتصفح كراسة لتلميذ، ونقف عند فقرة كتبها بقلمه، فإننا سنكون أمام لوحة فنية، نتمعن في انحناءات الأحرف ونهاياتها، وحجم كل حرف وعلاقته بالحرف الآخر، حتى لو لم يلتزم التلميذ بقواعد الخط العربي، فإننا نستطيع تمييز ما هو جميل عن غيره، ولو حاول التلميذ خلط النمط النسخي بالنمط الكوفي، فإنه سيضفي مسحة سيئة على اللوحة تفقدها جمالها.
هذا المشهد، يتكرر في الطعام والملبس والبناء والفكر والموسيقى، فإن وضع أحد الطباخين عسلا أسودا (مثلا) على طبق من سمك سيجعل من يتناوله يتقزز، وإن وضع أحد رعاة الأغنام في بلادنا العربية (قبعة كاوبوي) سيجعلنا نضحك لكسره للنمط المألوف، وإن وضع أحد البنائين قطع قرميد زرقاء على مأوى للدجاج، اعتبرنا ذلك ضربا من (الفانتازيا)، وإذا حور لنا كاتب يساري شعارهم المعهود وجعله (يا عمال العالم صلوا على النبي) علمنا أنه يتهكم ويحاول التقرب والمصالحة من الفكر الإسلامي بطريقة غير مقبولة، وإن وضع قائد فرقة (عُمان) للموسيقى الكلاسيكية فقرة لعازف (مجوز أو شبابة) فإن ذلك سيكون غريبا وهكذا..
مفردات اللوحة لوحة
الحي بمحيطه الإجمالي لوحة، والبيت في الحي لوحة، والمواطن داخل الحي بسلوكه وعاداته لوحة، كلما تقاربت ألوان كل مُكَوِن للوحة بلونها، كلما بدت اللوحة متكاملة وجميلة ومريحة لمن ينظر إليها، تماما كما يحدث في تقسيم أدوار العازفين في فرقة (أوركسترا) كبيرة، فإن حدث خروج على اللحن العام وإدارة قائد الأوركسترا، أصبح اللحن نشازا.
اللوحة الأولى
صحراء من رمال وقليل من النباتات الرعوية المتباعدة، صفير الهواء، وتطاير ذرات الغبار، وثغاء الأغنام، و(كركعة) أجراس (المراييع) ونباح الكلاب، وإشارات الرعاة الصوتية. وتشبث خيام البدو واستظلال كبار السن منهم تحت الخيام، فوق بساط صوفي رقيق، وتطاير الذباب من هنا وهناك، وانشغال امرأة في إشعال النار لتحضير طعام، وتدحرج طفل عاري المؤخرة من على جنبي جده المتمدد، يعطي للنفس رضا دفين لا يعادله رضا.
تعالوا لنشوه الصورة: تدخل فتاة بعمر المراهقة حشرت نفسها ببنطلون (كاوبوي) ضيق، عائدة من المدرسة، لتذهب وتشغل (محرك) لتوليد الكهرباء، لتشغل جهاز تلفزيون بالخيمة وتتابع به مسلسل (نور).
اللوحة الثانية
ثلاث غرف من الطين والحجر، تجلس امرأة وراء (شكوة) لاستخلاص الزبد من اللبن بهز الشكوة، وتمسك برمح من القصب لطرد الدجاجات من اقتحام الغرفة عليها، وتأمر طفلة في السابعة من عمرها، بهز السرير لوليد يبكي لأكثر من سبب، لجوعه أو لحرقة في التراب الذي وضع له بين فخذيه لامتصاص الرطوبة، وصوت حمار يستغيث في أطراف الدار طالبا قليلا من ماء الشرب. إنها لوحة اعتيادية، لا تثير الضجر في تحملها (في وقتها).
تعالوا لنشوه الصورة: يدخل شاب في العشرين من عمره، أجبر خصلات شعره على الوقوف بواسطة (جل)، وبيده (شطيرة من الشاورما). تسأله والدته: كيف كان امتحانك؟ فيجيبها: تمام.. وهي لا تعلم أنه لا يذهب لكليته.
اللوحة الثالثة
يجلس بعض الشباب، يتذاكرون ببطولات قديمة لأجداد قدماء، ويتبارزون بشعر زهير بن أبي سلمى، واحمد شوقي، والزهاوي والشابي، ويملئون صدورهم بهواء يعتقدون أنه سيقذفهم الى مجد تليد، متخطين واقعهم المرير، ومنتقدين كل ما هو مثير لهدر كرامة أمتهم. إنها صورة مقبولة ولو أن الكثير سيحملها ما لم يقع عليهم تبعية ما هو عكس ما كان يحلمون به.
تعالوا لنشوه الصورة: يجلس الشباب، ويستعرضون إمكانيات جهاز (الخلوي) لكل منهم، فهذا يصور، وهذا يستعيد شريط لموقف (فاقس) وهذا يستعرض النغمات في جهازه!
مَن رسم الصورة الجديدة؟ وهل كان هناك أكثر من فرشاة واحدة طمست بأكثر من (محبرة) لتلون تلك الصور؟