الأعلى و الأسفل؟
يأخذ العلو في التراث العالمي مفهوما واحدا وهو (العلو) و (السمو)، والارتفاع والرقي والفضل والشموخ والازدهار. وبالمقابل يحمل الدنو (الأسفل) في التراث العالمي مدلولا نقيضا، فهو الأسفل وهو الأدنى والمنحط والمنخفض والوضيع الخ، وتعبر عن ذلك الأشعار وكلمات التبجيل أو التحقير.
لكن، هل هذه المسألة مطلقة ومعبرة عما تدلل عليه؟
في بعض مناطق الريف العربي، عندما يريد أحدهم أن يذم أحدا متراخيا لا يقوم بمهامه بشكل جيد، يطلق عليه وصف (حنك فوقاني) حيث إن من يطحن اللقمة ويعلكها هو الحنك التحتاني وليس الفوقاني، فالفضل هنا للحنك الأسفل، لا للأعلى، وهذا استثناء للقاعدة المتعارف عليها عالميا. ولو تَلِفَتْ أسنان الفك الأسفل أو أزيل الفك فإن صاحبه سيموت جوعا لا محالة.
في الأردن (مثلا) تنضج خضروات وفواكه أغوار نهر الأردن قبل غيرها بمدة تصل الى شهرين بعض الأحيان، وأغوار الأردن هي أكثر بقاع الكرة الأرضية انخفاضا، وتعطي ميزة نضج الفواكه والخضروات فضلا كبيرا للاقتصاد الأردني، حيث يستفيد من يتاجر بتلك المواد فائدة عظيمة، إلا سكان الأغوار أنفسهم فهم من أفقر سكان الأردن.
في العمارات الشاهقة، يكون الفضل للأسس المدفونة تحت الأرض، ولولا يقظة تلك الأسس المستمرة، وعدم غفوتها للحظة واحدة لانهارت العمارة على من فيها من قاطنين، ومع ذلك لا أحد يرى تلك الأسس ولا يضعها على بطاقات المعايدة أو يأخذ صورة جنبها.
في المصانع والشركات، من يقوم بالإنتاج هم العمال الذين لا يصرحون باسم تلك الشركات ولا يُدعون الى المؤتمرات وحفلات الغداء ولا يلبسون أفخر الملابس ولا يركبون أرقى السيارات.
في الأقوام يتكلم باسمهم ويمثلهم علية القوم، و(ينكب ) بقية الناس على تمثيلهم دور الرعية الخادمة والمبررة لوجود من هم علية القوم. ولو انسحبت الرعية لارتبك نظام علية القوم، ولما وجدوا من يمثلون عليه دور العلية.
في أجسام البشر، يزهو الرأس ويبتسم ويعبس بصفته رأسا (رئيسا) للجسم، ويعتمر أحيانا غطاءا فاخرا أو (تسريحة) شعر معتنى في توظيبها، في حين تكون القدم والذي يتساهل الناس في تسميتها فلا يطلقون عليها اسم (حافر) كما في الدواب، من باب احترامها!، وإن انتعلت شيئا أطلقوا عليه اسم (وطية) وهو تعبير يدلل على الاحتقار فالواطئ هو الدنيء المحتقر.
لنتصور أن رؤوس البشر تسير دون سيقان أو أقدام، ولنتصور أن العمارات ترتفع عن الأرض بلا أسس، ولنتصور أن الأشجار بلا جذور. لو حدث ذلك ـ لا سمح الله ـ فإن الحياة سترتبك وتتحطم. ومن هنا فمن المنصف أن يهتم من هم في الأعلى بمن هم دونهم، وإن قالوا نحن نعترف بهم ونتساوى معهم، فمن أين تأتون بمثل تلك الافتراءات؟ سنقول لهم ما بالكم إذن، لا تزاحمونهم على مكانتهم تلك كما تتزاحمون على تبوء القمم؟